أنت هنا

قراءة كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

كتاب " العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

ودونما حاجة للوقوف عند كل الأعمال التي مست شيئاً من القول في مفهوم العالم لدى ابن رشد، إذ سنشير إليها في مناسبات كثيرة لاحقة من هذا العمل، نكتفي فقط بأن نقول عنها، هاهنا، انها لم تنظر في مفهوم العالم لدى ابن رشد، ولا سيما في إشكال التناهي واللاتناهي وما يتصل به من قضايا ومسائل، كما أنها لم تتابع المتن الرشدي في كل لحظاته الشارحة والموضوعة، وذلك ما ينبري العمل الذي نقدمه، هاهنا، لمحصه وبسط القول فيه، فضلاً عن أن كثيراً منها لا يعد واضعوه من المشتغلين بالدراسات الرشدية إذ أنهم إنما وجدوا انفسهم، لدافع من الدوافع وفي مناسبة من المناسبات، يكتبون مقالة أو مصنفاً يشيرون فيه إلى هذه المسألة أو تلك من مسائل العالم لدى فيلسوف قرطبة ومراكش، الأمر الذي يتعذر معه اعتمادهم من بين أئمة النظر فيما نحن بسبيله(90).

إن التعامل مع التصور الأرسطي لمفهوم العالم سوف يتيح لابن رشد الانفلات من المجال الضيق لهذا المفهوم بحسب ما تمت صياغته في التصور الكلامي الإسلامي اعتماداً على الخلفية الدينية التاريخية واللغوية التي لا تخلو من نفحة فلسفية، كما عبر عنها، مثلاً وبصورة مجملة جامعة، إمام الحرمين الجويني من خلال الوصل بين الدلالات التيولوجية واللغوية المتمثلة في العلم والعالِم والعالَم والربوبية والجوهر والموجود إذ يقول:

«فمما أطلقوه العالَم. فإن قيل ما العالَم ولم سمي العالَم عالَماً؟ قلنا العالَم، عند سلف الأمة، عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وعند خلف الأمة عبارة عن الجوهر والأعراض. فأما قوله لم سمي العالِم عالِماً؟ فمشتق من العلم والعلامة.وإنما سمي العلم علما لأنه إمارة منصوبة على وجود صاحب العلم، فكذلك العالَم بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى»(91).

إذا كانت بعض الاتجاهات في التفسير توافق ما يذهب إليه إمام الحرمين في الشق الأخير من كلامه، فيما يخص توثيق الرباط بين العالم والعلم والعلامة، كما نلفي ذلك في تفسير الجلالين(92)، فإن ابن منظور ينقل لنا، في لسان العرب، خلاصة رأي المتقدمين في معنى العالم، فإضافة إلى القول بانه «الخلق كله»(93)، أو أنه «ما احتواه بطن الفلك»(94)، وفضلاً عن القول بأنه جمع لأشياء متفقة لا مختلفة، ومن ثم، فلا واحد له، وإنه يجمع على عالمين وعوالم، فضلاً عن ذلك كله يورد صاحب اللسان اختلاف المفسرين الأوائل في دلالة لفظ العالم، حيث يرى ابن عباس أنه «الجن والأنس»، في حين يذهب قتادة إلى أنه «الخلق كلهم»، بما في ذلك «البهائم والملائكة»، بينما ينحاز الأزهري إلى مذهب ابن عباس بدليل أن الرسول لا يمكن أن يكون نذيراً لغير الأنس والجن من البهائم والملائكة(95).

أما المذهب الذي يقول به الخلف، أو خلف الأمة كما يقول الجويني، فنجده واضحاً لدى الباقلاني في التمهيد، حيث يرى: إن

«جميع العالم العلوي والسفلي لا يخرج عن هذين الجنسين، أعني الجواهر والأعراض»(96).

إذا كان واضحاً أن المذهب الثاني، وهو مذهب المتكلمين، أو رأي جماعة منهم على الأقل فيما يبدو، قد اعترف باستدماج ألفاظ، أو مقولات ومفاهيم، فلسفية في تعريف العالم، وذلك خلافاً لما يذهب إليه سلف الأمة الذي بقي منغلقاً في تصور لغوي تيولوجي، فإن هذا الاعتراف سيبقى قاصراً عن الوفاء بكل طموح ابن رشد، إذ لم يكن مفهوما الجوهر والعرض، ولا مفهوم الموجود، بالمفاهيم الكافية لإضفاء الطابع الفلسفي على التصور الذي يريده ابن رشد للعالم، لأن هذه المفاهيم، بالرغم من حمولتها الفلسفية الواضحة، لا تستحضر الجانب العلمي، كما رسمته المنظومة الطبيعية والتعاليمية الأرسطية وغير الأرسطية من بطليمية وغيرها. ذلك ما توحي به مختلف الدلالات التي يعرض لها أرسطو، وبعده ابن رشد، حول معنى العالم، فقد يراد بالعالم، ولا سيما عند مواطئته للفظ السماء، أحد ثلاثة معاني: أولها فلك الكواكب الثابتة، والثاني الجزء المتحرك دوراً من العالم، وهو الجرم السماوي ككل، والثالث العالم بكامله. ذلك ما يقره أرسطو ويؤكد عليه ابن رشد وغيره من دارسي أرسطو القدامى منهم والمعاصرين(97).

معنى ذلك، أنه كان لا بد من تجاوز التصور الكلامي حول العالم لانحباسه، مع المتقدمين بوجه خاص، في أساس تيولوجي لغوي، بالرغم من إقراره، لدى المتأخرين أساساً، بنوع من النزوع الفلسفية، وذلك لصالح تصور فلسفي علمي يستحضر علوم التعاليم، ولا سيما منها علم الهيئة، والعلم الطبيعي في أبعاده الفيزيائية والكوسمولوجية، فضلاً عما يقتضيه ذلك من آليات الاستدلال والافتراض والترسيم ذات الأصول المنطقية والهندسية والجبرية.

إذا كان بعض ممن لهم قول في هذا الشأن قد استحضروا شيئاً من الروح الأرسطية في تعريف العالم والسماء، ولاسيما أنهم لا يغفلون، في تعريفهم ذاك، هذا البعد العلمي الفلكي، إلا أنهم مع ذلك لم يفوا بما يجب الوفاء به في ذلك، مثلما نلفي لدى صاحب كشاف اصطلاحات الفنون، حيث إنه، من جهة أولى، يدرج علم السماء والعالم ضمن العلم الطبيعي لا التعاليمي(98)، وذلك ما يوافق التصنيف الأرسطي الذي لا يمكن، بوجه عام، إلّا أن يحظى بموافقة ابن رشد، لكن التهانوي، من جهة ثانية، ينثني بعض انثناء عن الخط الأرسطي الرشدي، أو ما يبدو أنه كذلك، عندما يعدد معاني السماء باستعمال ألفاظ غريبة لا يبدو أنها تلائم الألفاظ المتعارف عليها في أوساط المشائين بهذا الصدد(99)، بل إنه إنما يجعل السماء جزءًا من العالم فحسب ولا ينتبه، قصداً أو عن غير قصد، إلى أن هذا اللفظ قد ينطبق على معنى العالم ككل(100).

على أن التصور الكلامي للعالم لا ينحصر في هذه الصورة فحسب، بل إنه يقدم، خاصة بحسب ما يهمنا في هذا العمل، صورة احتمالية للعالم تجعله، إن لم تعصف بإمكان وجوده ككل، مجرد حالة من الحالات الممكنة، وذلك ما يذهب إليه الأشاعرة بمقتضى دليل الحدوث الذي قال به متقدموهم، وهو نفسه المذهب الذي صاغه متأخروهم في ما يمكن الاصطلاح عليه بعبارة دليل الجواز، مثلما نلفيه لدى إمام الحرمين «أبو المعالي الجويني»، بحسب ما يذكر ذلك ابن رشد نفسه، ولاسيما إذ ينسب ما يصطلح على نعته بطريقة المتأخرين إلى الجويني(101)، وهو ما قد يخالفه فيه بعض الدارسين القدامى والمعاصرين، وإن كان بعضهم الآخر يوافقه في ذلك أو يتردد فيه(102).

إن العالم، بموجب فلسفة التجويز التي يقتضيها هذا الدليل، جائز أن يكون كله على غير ما هو عليه الآن، سواء في هيئته أو من حيث القوانين التي إليها يحتكم، وذلك ما يسمح، في التصور الأشعري، لا باحتمال وجود أنظمة أخرى للعالم فحسب وإنما، أيضاً، بجواز لاتناهي هذه الأنظمة، ومن ثم، بإمكان القول بتعدد العوالم ولاتناهيها مما لا يمكن لابن رشد، ولا بحال من الأحوال، أن يقبل به لمكان تنافره التام مع التصور الرشدي للعالم.

لعل مما سوف لا يروق ابن رشد، أيضاً، إن بعضاً من المفكرين والعلماء اللاحقين عليه سوف يستعيدون التصور الفلسفي المنطقي للعالم، دون التصور العلمي الفلكي، بل إن بعضاً منهم سوف يرتدون إلى التصور اللغوي التيولوجي، دون التصور الفلسفي ككل، مثلما نقف على ذلك، فيما يخص «النكوص» الأول، لدى ابن البنا المراكشي إذ يقول، في سياق آخر غير السياق الكوسمولوجي الذي يشغلنا في هذا العمل: إن العالم جوهر وعرض، كما أن عالم الرياضيات المغربي المراكشي يمزج هذا التصور المنطقي بأمشاج تعاليمية رياضية وأخرى فيزيائية تيولوجية يغيب فيها البعد الفلكي والكوسمولوجي عموماً، حيث يقول:

«العالم جوهر وعرض. والعرض تسعة اجناس، والجوهر قسمان، حاصر ومحصور. فالحاصر تسعة وهي السماوات السبع والكرسي والعرش، والمحصور فيها تسعة، العناصر الأربعة النار والهواء والماء والتراب، والمتكون منها (جنسا)(103) المعدن والنبات، والحيوان ثلاثة، والجن والملائكة»(104).

الصفحات