أنت هنا

قراءة كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

كتاب " العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

أما فيما يتعلق بالنكوص الثاني، أي استعادة التصور اللغوي التيولوجي، فيمكن الإشارة إلى الجرجاني في التعريفات، حيث يذكر أن «العالم لغة عبارة عما يعلم به الشيء، واصطلاحاً عبارة عن كل ما سوى الله من حيث أسماؤه وصفاته»(105).

ومهما يكن من أمر بهذا الخصوص، أي بالنسبة للتصورات السابقة على ابن رشد، أو المتزامنة معه، أو حتى بالنسبة للتطورات اللاحقة عليه في مفهوم العالم، فنحن مع أبي الوليد، بوجه خاص، بإزاء نوع من العلاقة بين العلم والفلسفة لا يمكن، بدونها، إدراك القيمة البالغة للتصور الرشدي حول العالم، ومن ثم، بين تناهيه أو لاتناهيه. لقد كان ابن رشد، بحسب عبارة «غيرهارد اندرس»، يطبق العلم في الفلسفة، إذ ليس من الممكن لديه إيجاد الفلسفة الأرسطية الحق إلّا عبر العلم(106).

يتداخل، من هذا المنطلق، تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في الفكر الرشدي بقدر ما يتداخل، لدى فيلسوف قرطبة ومراكش، تاريخ المتن مع تاريخ النسق. لذلك فإذا لم يكن يجوز للدارس أن يقرأ فكر ابن رشد دون مراعاة المتن في مختلف لحظاته وإشكالاته، فإنه لا يحق له، أيضاً، التعاطي للنظر في فلسفة الرجل دون الإقدام على معرفة مساهماته في تاريخ العلم، أو دون الإكباب، على الأقل، على معرفة الكيفية، أو الكيفيات، التي سوف يتمكن بها من استثمار العلم في الفلسفة، إذا اعتبرنا أن ابن رشد لم يكن يمتهن صناعة العلم بقدر ما كان من محترفي صناعة الفلسفة.

نحن، إذن، أمام أربعة تواريخ على الأقل هي تاريخ المتن، شكلاً ومضموناً، وتاريخ الفلسفة وتاريخ العلم، فضلاً عن تاريخ المجتمع الذي ينتمي إليه أبو الوليد بكل معطياته المتعارف عليها في العالم الإسلامي الوسيط، ولا سيما في الجناح الغربي من هذا العالم. فكيف تتضافر هذه التواريخ جميعها في تشكيل التصور الرشدي للعالم؟ كيف يتكامل، أو ربما أيضاً يتنافر، كل من مختصر السماء والعالم وتلخيص السماء والعالم وشرح السماء والعالم، ومن ثم، كل النصوص الشارحة لدى أبي الوليد، مع النصوص الموضوعة في صياغة هذا التصور؟ ما العلاقة التي تصل هذا التصور بغيره من التصورات حول العالم وفي مقدمتها التصور الأرسطي باعتباره نقطة ارتكاز العمل الذي سيقدمه أبو الوليد بهذا الصدد؟

معنى ذلك، أننا سنضطر إلى التوسل ببعض آليات المنهج الفيلولوجي التي تراعي، أولاً، تاريخ المتن وحالاته المختلفة وموقعه ضمن المنتوج العام لفكر ابن رشد وتطوره، والتي تراعي، ثانياً، علاقة ذلك كله بالتصور الأرسطي للعالم، أو ما يمكن النظر إليه على أنه كذلك، لا من خلال مشكلات المتن فحسب، مثلما هو الشأن بالنسبة لابن رشد، ولكن عبر أفاعيل القراءة ومستويات الفهم والتأويل التي خضع لها التصور الأرسطي حول العالم، الأمر الذي يستدعي، ثالثاً، مراعاة علاقة القول الرشدي في العالم بغير التصور الأرسطي مما له صلة بالقضايا ذات الصدارة فيما نحن بسبيله.

لا بد، من هنا، من توزيع تواليف السماء والعالم لدى ابن رشد، والتي حفظتها لنا الخزانة الرشدية، بوجه عام، والعربية منها على وجه الخصوص(107)، على مختلف محطات حياته الفكرية، السابق منها واللاحق، مع الوعي بمحدودية الرؤية الكرونولوجية وإشكالاتها، في بعض الأحوال والمقامات، واستخلاص النتائج الممكنة من ذلك.

لعل أهم ما بأيدينا، بهذا الصدد، ما قدمه أستاذنا المرحوم «جمال الدين العلوي» ملخصاً آراء سابقيه ومقدماً اجتهاداته الخاصة وإضافاته النوعية في الموضوع، حيث يذهب، اعتماداً على ما أقره «أرنست رينان» والأب «الونسو» والأب «بويج»، وكذا استناداً إلى بعض ملاحظاته الخاصة، إلى أن أبا الوليد ابن رشد وضع مختصر، أو جوامع، السماء والعالم سنة 554هـ، أي أن هذا المختصر، أو الجامع، ينتمي إلى المرحلة المبكرة من حياة الرجل الفكرية، بينما وضع تلخيص السماء والعالم سنة 566هـ، وهي المرحلة الوسطى في تطوره الفكري الفلسفي والعلمي، في حين أنه لم يكتب شرح السماء والعالم إلّا في مراحل لاحقة، ومن ثم، ناضجة، من هذا التطور. والباحث المرحوم وإن لم يضع، في بداية الأمر، أي في تحقيقه لـِتلخيص السماء والعالم، تاريخاً محدداً لذلك، لصعوبة الأمر فيما يبدو، فإنه يؤكد أن الشرح كتب بين سنة 575هـ وبين زمن كتابة شرح ما بعد الطبيعة، لكنه، بعد ذلك بحوالى سنتين، أي في كتابه المتن الرشدي، يقترح أن شرح السماء والعالم قد يكون صنف سنة 584هـ(108).

إذا كان الأستاذ «جمال الدين العلوي» يؤكد على أن الشروح تتضمن العبارة النهائية عن الرشدية الحق، فإنه يقر، مع ذلك، بظاهرة المراجعة في أنماط الكتابة الرشدية، الأمر الذي سوف يعمد أبو الوليد، بمقتضاه، إلى إعادة النظر في بعض ما كتبه في المختصرات والجوامع، مثلاً، على ضوء ما انتهى إليه في التلاخيص والشروح، أو بناءً على ما عن له بين قراءة وأخرى من قراءاته المتكررة للمتن الأرسطي ولغيره من المتون والشروح على هذا المتن أو غيره، وأيضاً على ضوء مختلف التحولات التي سوف تعرفها المدينة الإسلامية، عموماً، والمغربية الأندلسية بوجه خاص(109).

سوف تتنزل المختصرات، ومنها مختصر السماء والعالم، بمقتضى هذا المبدأ، منزلة متدنية في العبارة عن فكر ابن رشد. إنها لا تستدعى، في أحسن الأحوال، إلّا للشهادة على مقدار التطور الحاصل في آراء ابن رشد وأقاويله ككل، وبخصوص مسائل السماء والعالم ومنها، على وجه التحديد وبحسب ما يشغلنا في هذا العمل، مسألة تناهيه أو عدم تناهيه.

بصرف النظر عن الاختلاف الشاسع بين المهتمين بابن رشد، ولاسيما منه الاختلاف المتعلق بأشكال النصوص التي تعبر فعلاً عن فكره «الحق»، هل هي التواليف الموضوعة دون الشروح، بحسب اقتراحات بعض الدارسين(110)، أم إنها، على العكس من ذلك، الكتابات الشارحة، سواء منها الشروح أو التلاخيص أو المختصرات والجوامع، كما يذهب إلى ذلك غير هؤلاء من النظار(111)، بصرف النظر عن ذلك كله فنحن نرى أنه يجب التأكيد، فيما نحن بسبيله، على أمور خاصة أساسية أهمها: أننا لا نرى أهمية للتمييز بين المختصرات والجوامع، فـمختصر السماء والعالم، مثلاً، هو نفسه جوامع السماء والعالم، فضلاً عن ذلك فالمختصرات لا تقل قيمة، في العبارة عن فكر ابن رشد، عن التلاخيص أو الشروح، وذلك بمراعاة ظاهرة المراجعة ذاتها التي تدل، في نظرنا على أمرين هامين بالنسبة لهذا النمط من الكتابة الرشدية، وهما: أولاً، إن أبا الوليد إنما يريد بهذه المراجعة، أو المراجعات، تحيين تلك المختصرات، ومن ثم، فهي تعني، من جهة ثانية، امتداد نمط الكتابة المختصراتية إلى ما بعد المرحلة المبكرة من حياة ابن رشد الفكرية، بل إلى ما بعد مرحلة الشروح الكبرى نفسها، ومن ثم، فهي تحتفظ بكامل أهميتها على امتداد هذه الحياة، حتى إننا لنكاد نقول بأن المختصرات تحظى، في المتن الرشدي، بما لم يحظ به أي نمط آخر من أنماط الكتابة لدى ابن رشد.

ذلك ما يصدق في حق مختصر السماء والعالم، ولاسيما بإزاء ضياع المقالتين الثالثة والرابعة، وكذا الجزء الأعظم من المقالة الثانية، مع شيء غير يسير من المقالة الأولى(112) من شرح السماء والعالم. وذلك ما يمنح هذا المختصر، بوجه خاص، أهمية بالغة بإزاء كل من التلخيص والشرح، ولاسيما بالمقارنة مع الشرح وقد ضاع منه القدر الهائل المشار إليه. إن الصورة الكاملة الممكنة للقول الرشدي في العالم، وفي تناهيه أو لاتناهيه، إنما تستلزم المعالجة الشاملة لكل المتن الواصل إلينا من تواليف ابن رشد حول السماء والعالم، مع مراعاة ما يمكن أن يكون فيها من تطورات وانعطافات تتلاقى جميعها في بؤرة واحدة أساسية هي القول الرشدي في العالم ككل، وفي تناهيه أو لاتناهيه بوجه خاص.

إن مراعاة تشكل المتن الرشدي حول السماء والعالم، في كرونولوجيته وإشكالاته، باعتبارها ملمحاً هاماً من الملامح الأساسية للمنهج الفيلولوجي الذي نختار الاهتداء ببعض توجهاته ومساراته، تقتضي منا، أيضاً، كما ألمعنا إلى ذلك فيما تقدم، المقابلة بين آراء ابن رشد وأقاويله في السماء والعالم وبين مواقف المعلم الأول في الموضوع ذاته.

لقد أثار المتن الأرسطي، بصفة عامة، أي في كل مناحي المنظومة الفلسفية والعلمية الأرسطية، جدالاً حاداً في أوساط المشتغلين بالدراسات الأرسطية بين ما كتبه أرسطو فعلاً وما لم يكتبه، أو ما هو منحول عليه، أو كتبه باشتراك مع غيره من تلامذته وزملائه، وبين ما كتبه لأجل النشر وما كتبه لأجل استعماله الخاص، أي في سياق إنجاز دروسه ومحاضراته من حيث هو صيغة بيداغوجية للتدريس، وبين ما كتبه في بدايات حياته الفكرية وما ألفه في أيام نضجه الفلسفي والعلمي، وبين ما تركه مكتملاً ومجمعاً في نص واحد وما لم يتركه كذلك؛ لكن تلاميذ أرسطو، أو غيرهم ممن وقع إليهم المتن الأرسطي أو بعض من أجزائه، عملوا، استناداً إلى مبادئ وتصورات خاصة، على جمعه وتنسيقه بالطريقة التي وصل بها إلينا على أنه لأرسطو لا لسواه(113).

والظاهر أن تلك كانت، أيضاً، حال كتاب السماء، إذ لا يختلف وضعه، وهو الكتاب الثاني ضمن المنظومة الطبيعية الأرسطية(114)، عن الوضع العام الذي عليه كامل المتن الأرسطي، بهذا الصدد، حتى إنه ليكاد يكون لواحد واحد من الباحثين الذين اشتغلوا عليه رأي غير آراء غيره من النظار الآخرين. ذلك أن كتاب السماء لم يسلم، لدى البعض، من النحل أو، على الأقل، من عدم مساوقة بعض ما فيه لبعضه الآخر، الأمر الذي قد يفسر العلة في كون كتاب السماء يضم عناصر وفقرات من كتاباته الأولى ذات الطابع المحاوراتي، ولاسيما منها كتاب، أو محاورة، في الفلسفة(115)، مما يدع الباب مشرعاً للقول بأن يداً غريبة، غير يد أرسطو، قد امتدت إليه بهذه الطريقة أو بتلك(116).

لكن البعض الآخر لا يرى، في ذلك، سوى مجرد دلالة على أن أرسطو لم يكتب أعماله، ومنها كتاب السماء، دفعة واحدة ووفق برنامج محدد ومخطط له سلفاً بقدر ما كان، ساعة فساعة، يراجع ما كتبه في أزمنة مختلفة وبروح مخالفة، فيعمل على تجميعه في بنية متناسقة(117)، بل إن من ذلك المكتوب ما لم يكن أرسطو يبغي نشره لأنه إنما كان يضعه لاستعماله الخاص، أي لإنجاز دروسه، لذلك فقد كان، هو نفسه، يعمد إلى نشر تواليفه، ولا سيما منها العلمية، بصورة منظمة ومنهجية(118).

يذهب جماعة من النظار، بموازاة مع ما تقدم، إلى أن ما يلاحظ، لدى أرسطو، من اختلال فهو إنما يدل على تطور فكر أرسطو منذ اللحظة المبكرة من حياته الفكرية حيث كان لا يزال واقعاً تحت تأثير الأفلاطونية،وإذا كان كتاب السماء من الكتب التي وضعها أرسطو في المرحلة التي كان لا يزال فيها واقعاً كلية تحت التأثير الأفلاطوني(119)، فلعله، لذات السبب نفسه، ليست بعض المواقف التي يتبناها، في هذا الكتاب، مثلما هي الحال في القول بأن للعالم نفساً، سوى إيذان بالتطور من التصور الأفلاطوني الأسطوري، إلى تصور فيزيائي محض للعقل(120).

لقد حاول فريق آخر من الدارسين إنكار إمكان أن يكون أرسطو قد مال إلى القول بأن للعالم نفساً، على أنه إذا كان الأمر كذلك، فيما يبدو، أي في حال وجود نفس للعالم لدى أرسطو، فعلى جهة التشبيه والقول الاستعاري، فبما أن أرسطو يرى أن علة الحركة في العالم هو الأثير، والكلام لديه هاهنا عن الجرم السماوي بالقصد الأول، فالأثير للعالم بمثابة النفس، أي أنه شبيه بالنفس ليست نفساً(121).

بيد أن ثلة من المهتمين يذهبون، على خلاف ذلك، إلى أن أرسطو، وإن كان يقول بأن للعالم نفساً، إلّا أن هذه النفس مغايرة للنفوس الإنسانية(122).

سوف يميل قوم، بموازاة مع ذلك، إلى أن كتاب السماء لا يكفي نفسه بنفسه، فهو يحتاج إلى المقالة الثانية من كتاب الكون والفساد حيث سوف يعمل على دراسة العناصر لا من جهة علاقة الثقل والخفة مثلما هي الحال في السماء وإنما من جهة قدرتها على التأثير في بعضها البعض ومن ثم على إنتاج الأنماط الثلاثة الأخرى من الحركة(123)، بل لقد جرت عادة أرسطو، فيما يرى بعض المهتمين، أن يذكر كتابي السماء والكون والفساد وكأنهما كتاب واحد(124). ثم إن كتاب السماء يحتاج، أيضاً، إلى مطالب من كتاب الآثار العلوية، خاصة وإن العالم «الوسيط» الذي يهتم به كتاب الآثار متصل اتصالا ما بالحركات السماوية(125)، فضلاً عن عدم حاجة كتاب السماء إلى المقالة الثالثة والرابعة منه، أي من كتاب السماء نفسه(126)، أو أن هاتين المقالتين إنما هما متكاملتان مع المقالة الرابعة من الآثار، فضلاً عن الكون والفساد حيث عاد أرسطو من جديد إلى دراسة العناصر الأربعة(127).

سوف ينعكس ذلك كله على موضوعات كتاب السماء ومسائله، ما ذكره منها أرسطو، فعلاً أو تلميحاً، وما لم يذكره، وسواء ذلك بالنسبة للأمور والقضايا الجزئية، مثل مسألة مدى وجود نفس للعالم أو عدم وجودها له، كما ألمعنا إلى ذلك سابقاً، ومثل مسألة العنصر الخامس وما يثيره من إشكالات ترتبط بمفهوم السماء والعالم ذاته، أو سواء فيما يتعلق بموضوع الكتاب بكامله هل هو دراسة للعالم ككل، كما يرى الإسكندر بحسب رواية سمبلسيوس(128)، أم أنه هو العناصر الخمسة كما يستفاد من كلام سمبلسيوس(129)، أم أنه الجوهر المتحرك الحركة الدورية، مثلما يذهب إلى ذلك بعض الافلوطينيين(130)، أم أنه نظام حركة الكواكب أو حركة الأجسام السماوية في المقالتين الأولى والثانية وحركة الأجسام الأرضية في المقالتين الثالثة والرابعة(131) أم ربما هو، كما أشرنا إلى ذلك في موضع سابق من هذه الديباجة، الفلسفة الطبيعية أو، بالضبط، البحث عن موضوع للفلسفة الطبيعية(132)، الأمر الذي قد لا يجعله إلا مجموعة ذاكرة علمية من المتعذر جداً أن نحصره في موضوع واحد(133). لذلك لا ينبغي البحث له عن موضوع، ولا عن قصد مفرد واحد ووحيد، ولا عن تصور نسقي متكامل وشامل. وذلك ما يجب الوعي به عند النظر في فكر أرسطو بكامله، سواء في هذا الكتاب، أو في فلسفته ككل، إذ لا ينبغي البحث عن الوحدة والنسقية مهما كلف ذلك من ثمن(134)، مع الإقرار، في الآن نفسه، بأن القول بالتطور والتغير لا يتنافى مع القول بالوحدة والتراكم، ومن ثم، فهو لا يتعارض مع نوع من النسقية لا يمكن إنكاره(135).

لعل من نافلة القول التأكيد على الأثر البالغ الذي سيتركه كتاب السماء، في صورته هذه، على القول الرشدي في العالم، وخاصة في مسألة تناهيه أو لاتناهيه، وذلك إضافة إلى المشكلات التي سوف تضاعف من تعقيدات هذه الصورة الإشكالية والتي ستثيرها الترجمة العربية للكتاب، إذ إنها تشكل قراءة جديدة، ومن ثم، قيمة مضافة في التراكم التأويلي، الموروث والمتجدد، لهذا الكتاب، وذلك في قائمة القراءات المختلفة التي مورست على كتاب السماء ومن خلاله على القول الأرسطي في العالم.

على أننا لا نعلم كثيراً عن الترجمات والشروح التي شكلت، بالنسبة لابن رشد بهذا الصدد، معيناً لا ينضب. صحيح أن أبا الوليد ذاته يشير إلى الإسكندر والى ثامسطيوس ويحاورهما فيما يذهبان إليه من مواقف وآراء، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم وهو ما سنقف عليه فيما بعد بما يلزم من البسط والإسهاب، ولعل فيلسوف المغرب والأندلس نفسه يرشدنا إلى الترجمة، أو الترجمات، التي اعتمدها لكتاب أرسطو في السماء، وهي ترجمة الكندي التي لا نعلم إذا ما كانت ترجمة بالفعل أم شرحاً، وربما أيضاً ترجمة إسحاق بن حنين أو حنين بن إسحاق(136)، بل قد يكون إنما استعمل ترجمة يحيى بن البطريق(137)، أو قد يكون، في نظرنا، استعمل كل تلك الترجمات أو غيرها مما لا نعرفه، حيث لا يمنع مانع من أن تكون قد تأدت إليه كل تلك الترجمات والتعديلات، إذ عادة ما كان أبو الوليد يحيل على أكثر من ترجمة في شروحه على أرسطو، مثلما يخبرنا بذلك مثلاً، في غير ما مواضع، من شرحه الكبير لكتاب ما بعد الطبيعة(138)، كما أنه عندما لا تكون يديه إلا نسخة أو ترجمة واحدة فهو لا يكف عن التصريح بذلك، مثلما يفعل في مختصره وتلخيصه للآثار العلوية(139). قد يكون كل ذلك صحيحاً إلّا أن الأصح هو أن أبا الوليد كان، وهو يطالع سماء أرسطو، كعادته مع مختلف تواليف الحكيم، لا يكف عن مطالعة «سماوات» أخرى تلهمه بما ينبغي أن يكون عليه الأمر في هذه المسألة أو تلك، وفي هذا الإشكال أو ذاك، من مسائل السماء والعالم وإشكالاته، ومنها، على وجه الخصوص، مسألة تناهي العالم أو لاتناهيه.

لا يسعنا، من هذا المنطلق، إلّا أن نسلك النهج الفيلولوجي المشار إليه آنفاً، مع مراعاة حدود ذلك النهج في المعطيات وفي النتائج، بحسب ما أوضحناه فيما تقدم وكما سنؤكد ذلك على امتداد صفحات هذا العمل. وليس لقائل أن يقول إن الفحص الفيلولوجي يتعارض مع النظر الفلسفي، إذ لا يوجد، في نظرنا، مجال لهذا القول، ولا سيما في سياق الفلسفة الإسلامية حيث تحظى النصوص بأهمية بالغة، وحيث الحال التي عليها هذه النصوص من العسر والعواصة والاستكراه مما يتعذر تحاشيه أو إغفاله أو غض الطرف عنه.

وبالجملة، فنحن بإزاء مجموعة من المطالب المتشابكة لا نستطيع، بدون استحضارها، أن ننجز قولاً مستقصى ولا نظراً دقيقاً في مفهوم العالم عموماً، وفي تناهيه أو لاتناهيه، بوجه خاص، لدى أبي الوليد بن رشد. وهذه المطالب، أو الدعاوى، هي، أولاً، ضرورة مراعاة العلاقة بين الشكل والمضمون، من خلال أولوية النظر في جغرافية المتن على أنه كله يحظى بنفس القيمة في صياغة التصور الرشدي حول العالم ككل ولمسألة تناهيه أو عدم تناهيه عبر ذلك، وثانياً، ضرورة الانتباه إلى أن مفهوم العالم ومكانته بين التناهي واللاتناهي، مثله في ذلك مثل كثير من مفاهيم الفلسفة الرشدية وقضاياها، إنما يتشكل عبر علاقة وطيدة بين العلم والفلسفة، الأمر الذي يجعلنا أمام نوع من استغلال الفلسفة للعلم، أو ربما- ولم لا - خدمة الفلسفة للعلم، مع ضرورة الانتباه، أيضاً، إلى الإمكانات الثرة التي سوف يساهم بها ابن رشد، وغيره من فلاسفة الإسلام في إغناء تاريخ العلم بحسب زمانهم ومكانهم. أما الدعوى الثالثة التي لا بد من الوعي بها، فيما نحن بسبيله، فهي استبعاد الوهم بوجود نسق متراص في القول الرشدي حول العالم وتناهيه أو لاتناهيه، بل لا يمكن للدارس، على العكس من ذلك، إلّا أن يلاحظ، في غير قليل من المناسبات، غير قليل من التناقضات، أو المفارقات، إما لعدم انسجام النص المشروح ذاته، أو لعواصة قضايا العالم وإشكالات تناهيه أو لاتناهيه واستعصائها على التحليل والنظر، أو لغير ذلك من العلل والأسباب...

نعم، إن الوضع، لدى ابن رشد، يختلف بعض اختلاف عما هو عليه الأمر لدى أرسطو. ذلك أن أبا الوليد، وهو يؤسس لقوله في العالم ويباشره، كان بإزاء ثلاثة أمور لا أثر لها لدى المعلم الأول. فلقد كان ابن رشد، أولاً، يقرأ المتن الأرسطي بكامله، كما أنه كان، ثانياً، يراجع مختلف المواقف التي عالجت هذا المتن واهتمت بما فيه من قضايا وإشكالات والتي عملت، من خلاله، على صياغة آرائها الخاصة في الموضوع، فضلاً عن أبا الوليد كان، من جهة ثالثة، يضع نصب عينيه، وهو يشتغل على ذلك كله، مستجدات الحياة السوسيوثقافية، السياسية منها والعقدية، في العالم الإسلامي عموماً، وفي الغرب الإسلامي على وجه الخصوص.

سوف نضع تلك المطالب والدعاوى والمعطيات على محك النظر، ومن ثم، موضع سبر واختبار، من خلال مسألة واحدة أساسية، من مسائل العالم لدى ابن رشد، هي مسألة تناهي العالم أو لاتناهيه، ومن ثم، وحدته أو كثرته، وكذلك امتداده إلى اللانهاية في العظم أو انحصاره ومحدوديته، وأخيراً كونه وفساده أو لا كونه ولا فساده، وذلك في العدد والعظم، أو المقدار، وفي الزمان والحركة والوجود والجوهر.

تتشكل، من هنا، أربعة أقسام للعمل الذي نحن بصدد إنجازه نفرد الثلاثة الأوائل منها للنظر في قضية تناهي العالم لدى ابن رشد، بينما نخص الرابع لفحص قضية لاتناهي العالم لديه.

ينبري القسم الأول لمحص تناهي العالم وأجرامه البسيطة الأول في العدد، لذلك وضعنا له عنوان «تناهي العالم وأجرامه في العدد»، ويتمفصل، من ثم، إلى ثلاثة فصول يهتم أولها ببيان إن العالم ككل واحد لا كثير، وإن تناهيه إنما يتم من خلال وحدته، وعنوانه «العالم واحد لا كثير»، في حين يختص الفصل الثاني بإثبات ملامح التعدد والتناهي، في آن واحد، بالنسبة للأجسام الأربعة، وهو الموسوم بعنوان «الأجسام الأربعة وأفق الثنائية»، ليركز الفصل الثالث، بعد ذلك، على القول في تناهي الأجرام ككل من خلال إبراز وجود جرم خامس ينتهي بالموقف الرشدي إلى نوع من المفارقة بين التناهي واللاتناهي في العالم، وقد رسمناه بعنوان «الجرم الخامس وأفق الثنائية».

لا يحيد القسم الثاني، أيضاً، عن إشكال التناهي، لذلك خصصناه للنظر في مسألة لا تقل أهمية عن المسائل السابقة، في هذا الشأن، وهي «مسألة تناهي الأسباب والعلل» التي جعلناها عنوانا للقسم ككل، لنوجه العناية في الفصلين اللذين يتشكل منهما هذا القسم إلى مسألة «تناهي العلل إلى أربعة» وهي الصيغة التي يختص بها الفصل الأول، والى مختلف المناظرات التي يواجهها ابن رشد في هذا السياق، وهي مهمة الفصل الثاني الذي رسمناه بعنوان «في السياق المناظراتي لتناهي العلل إلى أربعة».

أما القسم الثالث فيبقى، هو أيضاً، على صلة تامة بإشكال التناهي لكن في العظم لا في العدد، مثلما هي الحال في القسمين السالفين. من هنا عنوانه الأساس، وهو «تناهي عظم جرم العالم». ويتفرع هذا القسم، أيضاً، إلى ثلاثة فصول، ينظر أولها في «تناهي الجرم الخامس»، ولذلك رسمناه بهذا العنوان، أما الفصل الثاني فافردناه للقول في «تناهي عظم الأجسام الأربعة» وهو العنوان الذي رسمناه به، وخلصنا من ذلك إلى قضية «تناهي جرم العالم ككل» وهو العنوان الذي وضعناه علامة على الفصل الثالث والأخير من هذا القسم.

لم يبق، إذن، من الأقسام الأربعة المشار إليها، هاهنا، إلا القسم الرابع الذي يختص ببيان نقيض ما تهتم به الأقسام الثلاثة الأولى وهو إشكال اللاتناهي، لذلك فعنوان هذا القسم هو «في معالم لاتناهي العالم»، وينقسم إلى قسمين أولهما يتكلم «في مدى كون العالم أو فساده ككل» وهو عنوانه، في حين رسمنا الفصل الثاني بالعنوان الذي يدل على مقاصده وهو «في مدى كون وفساد الإسطقسات».

وقد ذيلنا ذلك كله بخاتمة حددنا فيها الخلاصات الأساسية للعمل وكذا آفاقه الممكنة، بعد أن صدرنا للعمل بكامله بمدخل أوردناه على جهة التقديم، أو التوطئة، رسمنا فيه التوجهات الكبرى للعمل، والدلالات الأساسية للصيغة التي اقترحناها عنواناً له، والمقاربات الضرورية التي يفرضها علينا عنوان مماثل، ومراميه القصوى والقريبة، فضلاً عن النصوص والتواليف المركزية التي لا بد من مراجعتها لتحقيق تلك الغايات وإنجاز تلك المقاربات والفحوص، مع التنبيه على مستويات الحيطة والحذر التي لا بد منها في ثنايا ومنعطفات ذينك التحقيق والإنجاز.

الصفحات