قراءة كتاب أما بعد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أما بعد

أما بعد

كتاب " أما بعد " ، تأليف وليد الرجيب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، أما بعد هي أول روا

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

استرسل

كانت قدماي الصغيرتان تنوءان بحملي في الحارات والأزقة المتربة، وكانت عضلات كتفي اليمنى مشدودة بسبب ثقل البقجة الكبيرة، التي أحملها طوال النهار، أخرج بها في الصباح الباكر، وأعود ظهراً للغداء، ثم أخرج بعد الظهر وأعود قبل أن تغرب الشمس، ما عدا يوم السبت الذي لا أضطر للاستيقاظ فيه مبكراً.

ورغم تحذيرات والدي، بألا أبتعد كثيراً عن الأحياء التي ضمن الخطة المرسومة لي، إلا أنني كنت أغامر كثيراً بالذهاب إلى شاطئ البحر، وأغسل قدمي اللتين تغير لونهما بسبب غبار ووحول الطرقات الضيقة.

وأحياناً تدمى قدمي، ليس بسبب رشق الصبيان لي بالحجارة والحصى فقط، ولكن بسبب اصطدامها أو دوسها على قطع زجاج أو حديد، وخاصة إذا مررت بسوق "الصفافير" أو الحدادين، أو قرب "القلاليف" أو صانعي السفن الخشبية قرب الشاطئ، الذين كنت أعشق ضربهم المتناغم بالمطارق، الذي يشكل مقطوعة إيقاعية راقصة، وأحب كل الأصوات التي تصدر من عملهم الدؤوب، أصوات المناشير والأزاميل والمساحيج، متناغمة مع أهازيجهم التي تعبق برائحة الملح، والروائح الغريبة للسوائل التي كانوا ينقعون فيها حبال الكتان، ليحكموا إغلاق فتحات المسامير الكبيرة بها، بعد أن يلفوها حول المسامير، وكثيراً ما شهدت بناء سفينة منذ أول خشبة، وحتى تدفع في الماء، وأشعر وكأنني دشنت هذه السفينة، وكأنني كنت جزءاً من هذا البناء الضخم.

وأظل فترات طويلة أرقب المراكب المهيبة، الطافية بجلال على الماء، والمشدودة بحبل سميك ينتهي بمرساة حديدية ثقيلة، والتي يصدر خشبها بين الوقت والآخر طقطقات عندما يحركها الموج، وأتخيل رحلاتها الأسطورية إلى بلدان العالم التي أسمع عنها، فأنا لم أكن أعرف غير الكويت التي ولدت فيها. بيد أن عمي كان يسافر كثيراً إلى البصرة ليأتي ببضاعته، وكنت أسترسل بفكري متخيلاً البلدان والمدن الأخرى، وكنت أتمنى أن أكون بحاراً، أعمل على "بوم" (1) سفار، وأجوب بلاد الدنيا، وأرى عجائبها التي كان موسى يحكي لي عنها، نقلاً عن والده إمام المسجد.

كنا نجلس ساعاتٍ أمام شاطئ البحر، نتحدث بينما كانت النساء المتشحات بالسواد، يأتين حاملات بقج الملابس على رؤوسهن، ليغسلنها بماء البحر ويدعكنها بالصخور، وهن لا يتوقفن عن الثرثرة، بينما كان أولادهن النحفاء ببشراتهم الداكنة، يسبحون في المياه الضحلة قرب الشاطئ، كان صياحهم عالياً وهم يرشون الماء بعضهم على بعض بشقاوة واضحة.

وأحياناً أثناء تجوالي في الحواري، كنت أربط جديلتي اللتين تصلان إلى شحمتي أذني، فوق رأسي وألبس طاقية لإخفائهما، ومع ذلك كان الصبيان يتعرفون على هويتي، بل كان البعض ينتظر خروجي من باب البيت ليرشقني بالحصى، والبعض كان يرشق باب البيت ذا المسامير الكبيرة، والذي ظل يحمل آثار اعتداء المارة حتى مغادرتنا له عام 1948م.

لكن ما كان لا يعرفه والدي، هو أنني كنت أبدأ جولتي اليومية بمخالفة خريطة الطريق المرسومة لي، فأمر بشكل يومي على بيت ساره، الذي كان يبعد حارتين عن بيتنا، وكانت تقف كل يوم وفي الموعد نفسه أمام باب بيتهم، وأظل معلقاً عيني على وجهها الجميل وشعرها المموج وحاجبيها الأسودين، كانت تبتسم لي ابتسامة تزودني بطاقة العمل والأمل، وتخفف عني ما سألاقيه من صبية الأحياء.

عرفتها وأحببتها أول مرة، عندما كان عمري عشر سنوات، وكانت تصغرني بسنة واحدة، وقد يبدو الأمر وكأنه عبث طفولة، لكنني أحببتها بصدق وما زلت أحبها بالقوة نفسها.

ماذا تسمي خفقات القلب عند تذكرها أو رؤيتها؟ لم كانت تحتل الحيز الأكبر من تفكيري؟ لم كنت أسهر في فراشي أفكر بوجهها وصوتها؟ لم بكيت وما زلت أبكي لفقدها؟ هي حب حياتي الذي ما زلت أحمله في قلبي الضعيف، وكل ما تبقى لي من أماني، هو أن اراها لمرة واحدة، وقد يكون هذا الأمل هو ما يبقيني حياً حتى الآن، ما أطلبه من الدنيا ليس كثيراً، كل ما أطلبه هو رؤيتها لدقائق فقط، ولأمت بعدها.

الصفحات