كتاب " صمت يتمدد " ، تأليف سليمان الشطي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب صمت يتمدد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
صمت يتمدد
لم أكرر هذه الفعلة، توثقت علاقتي بسالم، قامت بيننا ثقة، تجددت بعد أن جمعتنا البعثة الدراسية إلى هذه المدينة المتوثبة المشعة، وفيها وضح التزامه الحزبي، دعاني لحضور بعض أنشطتهم، اشتركت في بعضها، دون تورط أو اندفاع من جانبي أو إصرار من جانبه· استمعت، دون تعليق، اقتربت، لفحتني حرارة الثوريين، ولكني مع هذا بقيت عند حدود الهامش ؛ تحيطني حزمة من الخيوط أراها تلتف فلم أرد أن أضيف جديدا إليها· إن ثورية هذه المدينة تثير في نفسي متعة خاصة، أن تعيش الثورة دون أن تكون فيها، كنت أرى أشياء كثيرة مختلفة·
صيف 59 جاء ساخنا، من منا قاد الآخر، جاء يحيى الذي عرف الانتماء مبكرا، كان قد خرج من المعتقل قبل سنة، حين أطلقت الثورة أبطالها، فالتحق بكلية الآداب، أراد والده الميسور أن يستفيد من هذه الفرصة المناسبة فينقذه، فخبرة الأب التي وجهته إلى تهجير أمواله، دفعته إلى حث ابنه على الدراسة في الخارج بعد تجربة السجن، لم يرضخ لطلب والده، فثمة دور له في العهد الجديد· ولكن العواصف لم تتأخر، فالتهمت الثورة عددا من زملائه الذين كانوا معه في السجن قبل أن تطلق الثورة الجديدة أبطالها، ثم تعود لتعتقل من لم تتم تصفيته منهم· التقت نصيحة الأب مع موافقة التنظيم ففر يحيى إلى هذه المدينة التي يجتمع فيها من فقدوا أدوارهم أو راحوا يعدون ويستعدون لدور آخر·
قدمني إليه سالم:
- يحيى العزازي··نريد خبرتك في ترتيب أموره الحياتية··
رحلة ترتيب الأمور التي كان مقدرا لها أن تكون عابرة تحولت إلى ملازمة دائمة· في منتصف الطريق، بعد أن استعرضنا خمس شقق، أحسست أن يحيى مختلف، وأنا أحب أن أرقب المختلفين، وحدهم الذين يكفوني معاناة المشاركة فهم مشغولون بأعباء قياداتهم للآخرين· قلت له:
- لماذا لا تسكن معي··
تردد قبل القبول قائلا:
- أنت لوحدك·· لا أريد أن أسبب لك زحمة··
في الأيام الأولى كان يحيى ينظر إلي بحذر، أحس بأنني أمر بلحظات اختبار، تضايقت، يسمع ولا يتكلم، هادئ، يحرص على قراءة الجريدة بعدي، يلتقطها من تحت عقب الباب أول ما يستيقظ، ينظر فيها نظرة سريعة وهو قادم يحملها إلي لأقرأها أولا· كنت أتصفحها بسرعة ثم أتوقف عند الكلمات المتقاطعة وأمسك القلم، لم أكمل حلها في أي يوم· بهدوء يلقي بنظرة متفحصة على الصفحتين الأوليين، بعد أن يفصل صفحة الكلمات المتقاطعة، ويدفعها إلي، ويبدأ القراءة بعناية·
رأيته وهو ينغرس في حياة تفور· تَعودتُ على خروجه شبه اليومي مع سالم، حيث يختفيان لمدة ساعات تنتهي فيما بين التاسعة والعاشرة، لم أستغرب لقاءاتهما فهما من صنف واحد·
في الأيام الأولى صحبت يحيى إلى المكتبات فاشترى كتبا عامة، روايات، دواوين شعر، سير، كتب سياسية· اليوم مقسم عنده إلى أقسام، بعد قراءة الجرائد، التي طلب منها أكبر عدد ممكن، بعناية يضع أكوام كتب التاريخ على يمينه، لا يتحرك إلا إذا أراد أن يقول شيئا، يرفع صوته: صلوحي·· إذا لم أرفع رأسي واصل القراءة ولا يعيدها، أما إذا ند مني ما يشجعه: ها·· ينهض فاتحا صفحة الكتاب:
- اسمع هذه الجملة··
يتوقف عند كلمات ذات ثقل، يسميها المعاني الخارقة، العظمة حركة مستمرة، وصمت مقدس وفعل سماوي··
يشيع في جلستنا منفردين حيوية تفكك ذلك الانسحاب المستمر إلى داخل نفسي التي اعتادت التهويم في مناطق بعيدة، كانت حالات النظر إلى لا شيء ثم سؤال النفس خفية حالة أعيشها، قليلة تلك الإجابات التي أحصل عليها· لا صفاء أمامي، كأن عيني لم تعتد صفاء الأمور··
- ألا تقرأ الكتب السياسية؟
جاء يحيى من داخل الشقة وألقى بسؤاله علي، كلماته وصلت إلىّ وكأنها راجعة من اصطدامها بالحائط، ثم اخترقت حالة التأمل الذي ألهمني لأول مرة إجابة تليق بيحيى:
- كل قراءة مقدمة لفعل ما، وأنا لا أنوي أن أقترب منها··
- ولكن معرفة الحقيقة فعل عظيم·· وحدها مفتاح كل فعل··
- السياسيون لا يريدون الحقيقة، تهمهم الموافقة والتأييد فقط، ما طابق رأيهم حق يدور معهم، وما خالفهم باطل·· ما دمت معهم فأنت على حق، تشع نبالة وصدقًا، وإن كنت في الجانب الآخر فأنت مشبوه··هذه كلماتكم··
- ولماذا لا يكون لك رأي موافق أو غير موافق··
- الموافقة اختفاء، أما المخالفة في السياسة فهي لا تتوقف عند الرأي، إنها تصريح بانتهاك حياتك الخاصة، اعتقال وتدمير وأثمان لا قبل لي بها·· ولا تنسَ نحن لسنا مثلكم، بلدنا مختلفة··
هز رأسه:
- آه·· بلدكم مختلفة، أما نحن··!
دفع إليّ بكتاب ضخم، أغراني اسم هارون الرشيد، الأسماء على الورق تجر تاريخا، قال:
- كتاب ممتع·· كاتبه قومي متميز·· أتمنى أن نتناقش، بعد أن تقرأه··