كتاب " صمت يتمدد " ، تأليف سليمان الشطي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب صمت يتمدد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
صمت يتمدد
أدرك يحيى حساسيتي فأراد أن يعطيني درسا في الشعوبية· كتاب خرجت منه فقط بأن الأمهات أيضا يقتلن الأبناء·· سطوره حارقة، نرى أحيانا ما لا نتوقع أو ما لا نراه عادة، لا جديد على هذه الأرض· إن عيون أمي تطل متحركة ؛ تتشكل من الحروف المتجاورة في الكتاب الذي ظللت مدة واقفا عند صفحة معينة فيه: جمعت الخيزران، أم موسى الهادي وهارون الرشيد، جواريها، دخلت جاريتان تحملان وسادتين، وضعتا الوسادتين على وجهه، خمدت أنفاسه· تقول الخيزران لجاريتيها:
- إن مات موسى فقد بقي هارون· دعت بسويق فشربت، وسقت ضيوفها وطلبت مبلغا من المال فوزعته عليهم وكأن بشارة زفت إليها·· أصبحنا متعادلين، التاريخ يشهد أن الأمهات يقتلن الأبناء· القتل يسكننا· القتل حوار بين اثنين والتنافس رغبة تمور بالفناء، فالحب ليس فناء في الآخر ولكن فناء الآخر، القتل انتقاما··القتل بقاء··· القتـ···
انا ويحيى، رغم تآلفنا، نحتفظ بنوع من التباعد الذي كان يكملنا، كأننا نهرب من جحيم الاتفاق الدائم· هو ينظر إلى ما لا أنظر، كلانا يفكر بطريقة مختلفة، سأدعه مع سياسته، حسبي أن أراقب من بعيد· أحببته، استطاع أن يخترق الشرنقة التي بدأت أدور داخلها منفردا، يعود مع أول الليل، وفي الليل تتفتح العواطف، الظلام الذي يحد من مدى رؤية العين تتقارب فيه النفوس·
تتماسك أيدينا ونخرج· الليل في صحبته جميل، يتحول إلى شخص مختلف، مندفع عنده رغبة تجريب أي شيء، كنت دليله إلى المدينة الجديدة عليه، ولكنه هو حلقة الاتصال عندي، يلتفت إلي بكامل وجهه، العين تنفذ بشفافية المحب فأتذكر وجه أمي التي تحدثني دون أن تنظر اليّ، كل أم تتملى في وجه ابنها إلا أمي التي يطحنني نظرها إلى الأرض وهي تتكلم، قد تلتفت إلى الناحية الأخرى وهي تحرك المهفة بيديها وكأنها تطرد هواء لا تريده، أما يحيى فعندما يتحدث إليك يقبل، يحدق في وجهك، يبحث عن صدى كلماته، لا يريدك أن تهرب من نظراته·
عندما سألته، ونحن نجلس متقابلين في الشقة، عن المعتقل تشاغل ولم يتحدث ؛ كأن الأماكن المغلقة تطبق لسانه· وفي السياحة الليلية بادرني بالإجابة عن السؤال المختزن في ذاكرته·· تريد أن تعرف أيام المعتقل، كل شيء حدث، هذا وهذا - وأشار إلى عقله وقلبه - تغيّرا، خرجا وكل ما فيهما قد تزحزح ليحل مكانه المعرفة والرغبة الجامحة في التغيير، أبحرت في المادية التجريبية، تأملت في تطور اللحى، ثوار القرن التاسع عشر لحية فوضوية منطلقة ينبت شعرها كيفما شاء، ثم رأيتها مهذبة عند لينين، ممسوحة عند ماو· وسمعت همهمات حلقات المؤمنين بهم· جالست كل الفرق المعتقلة، كلهم يريد أن يكسب أنصارا جددا، في المعتقلات ترسم خرائط النفوس التي تسعى إلى التغيير فتصنع الثورات، خرجت وفي رأسي مجموعة من الأنظمة، أطرافها متماسكة ولكن في هيئة تشابك· وبقي إيماني بالقومية العربية· أحببت كتب الحصري وحفظت شعر سليمان العيسى··عرفت أيضا الأعداء المحتملين لنا· في السجون يجتمع الرافضون، بمن فيهم المجرمون الذين دفعهم الظلم إلى التحدي·· كان يتكلم عن المعتقل برومنسية غريبة·
ضرب بقدميه علبة صغيرة مطروحة على الأرض ونظر إلى البحر الذي كان يأخذ لوني الأزرق والأخضر، تذكرت الماء الطيني الذي كنت أحدق فيه أيام النفي إلى السكن الداخلي في ثانوية الشويخ·· ماذا تصنع الأيام هل تستطيع أن تدرك معنى الأيام، العرب سموا الحروب أياما· مثل هذا اليوم من السنة الماضية كنت أخرج من المعتقل إلى الحرب، واليوم···هل كتب علينا أن نبدأ من جديد دائما، لماذا نحن عند نقطة البداية، دائما نقطة بداية، متى نصل منتصف الطريق تمهيدا لخط النهاية؟·· صالح·· أقولك شيء؟·· إحنا أصدقاء؟· بادرت بحماسة: أصدقاء من القلب أتمنى لصداقتنا أن تبقى دائما لا تتغير···
- كل شيء قابل للتغيير· التغيير يفرض علينا وجوده·· أتمنى أن تبقى صداقتنا· حلم محتمل التصديق··
نظر إلى البعيد، كان حزنا موروثا يطل، كآبة راسخة·· لا أدري·· أرجو أن نجتـاز محن الاختبارات··
أمضيت تلك الليلة مفتوح العين··
في صباح يوم، وقف يحيى في منتصف الصالة، عيونه تكشف عن غضب حزين:
- سمعت الأخبار··
كان صوت عبد الناصر يتحدث عن حركة الانفصال، كلماته تؤكد أنه لن يُرفع سلاح عربي ضد سلاح عربي، وأنه أمر القوات التي أرسلت لمقاومة الحركة الانفصالية بالعودة·· في المظاهرة حضر يحيى ثم اختفى· وسط حشد المتظاهرين التقيت بدلال فنما لدي إحساس، ثمة إشراقة لهدف جديد·
كنت أستمع إلى يحيى ونحن نسير في جولتنا المعتادة، أستمع وأعلق قليلا، في صدري كلمات كثيرة تزدحم، أردت أن أشرك يحيى معي· كانت دلال تبعث من جديد، عواطفي نشطة، يزدحم داخلي، لساني يريد أن يفيض· أوشكت أن أفتح حوارا فترددت، أجمع بين مشاركة يحيى فيما يقول وفي الوقت نفسه تتوالى خواطري في ساحتها الخاصة· احتفظت بما يخصني لنفسي ؛ فقد وجدت يحيى مهموما بالحوادث التي كانت تتوالى، لمست تحفظا غير اعتيادي، التزامه الحزبي يقيده، رأيته مشغولا بشيء يتجنب الاقتراب منه معي في أحاديثه، لم تعد الكلمات تخرج منه كما كانت قبل أيام· إذن لديه أشياء جديدة كما أن لدي أشيائي الخاصة، كل واحد منا طرأ عليه طارىء يشغله عن الآخر···
قال يحيى دون مقدمات:
- صعب عليك أن تكون بعيدا··
وجدتني أسأل نفسي كيف أكون قريبا
- بعيد عن ماذا ؟
- عن المكان المناسب·· عن كل شيء تتمناه·· إنني الآن أحس أن دوران الكلمات دون معنى أخذ يغزوني، تعودت على أن تكون الكلمات فاصلا بين عملين··