أنت هنا

قراءة كتاب صمت يتمدد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صمت يتمدد

صمت يتمدد

كتاب " صمت يتمدد " ، تأليف سليمان الشطي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

يدفع إليّ باستمارة التسجيل لأوقعها· أحس بحرجه وهو يقول: التعليمات··· الذين يعملون في الفنادق يتجمد عندهم الفضول أم يتمدد، اعتاد على تقدمي للحجز للآخرين· أما هذه المرة فأنا الساكن فماذا يخمن؟

ممرات الفندق المتقاطعة، المنظفات والمعطرات لا تخفي الروائح، الأماكن العتيقة عفنة، أنفاس الناس تتراكم فيها، تطمس براءتها، تفقدني القدرة على الاحتفاظ بالتناسي، عندما دخلت، بيتنا الذي هجرته أمي، بعد الحادثة بسنتين، كانت الروائح باقية لتهيج الذكرى، ذكرتني بحضن مريم· ولكن في هذه المرة هذه روائح مطهرة، تطرد روائح الآثام الكثيرة التي تشهدها أماكن اللحظات العابرة· الشوراع الخلفية تضيق، تتقارب جدرانها، يتلامس الناس مرغمين·

بعض الخواطر تجلب المسرة، في الدرب الموصل إلى بيتنا كانت السكة تضيق فتصل في أحد انحناءاتها إلى أنها لا تسمح بمرور شخصين، يقف أحدهما ليعبر الآخر، وفي كل مرة يبتسم المتقابلان· كان مشهد ذلك الجمل الذي وقف محشورا بين بروزي الحائطين مثيرا· تعطل المرور نصف نهار، وكان الخلاف في الرأي هل يُدفع إلى الأمام أم إلى الخلف· طبيعي أن تنحاز كل طائفة لجهة· انتصرت حجة أصحاب الدفع إلى الأمام، فانحشر أكثر· حاولوا أن يعود للخيار الثاني فكان الوضع أصعب· لمح صاحب الرأي الثالث تباعد الحائطين في الأسفل وفي الأعلى فجاء رأيه: لماذا لا نضع حبلين تحته ثم نرفعه إلى الأعلى، رأى آخر أن العكس أسهل نحاول أن نضغط عليه حتى يطامن ظهره فيتحرر كرشه· كان الجمل وقتها يقلب رأسه وكأن الأمر لا يعنيه· الفعل الوحيد أنه بال مرتين· فاقترح أحد الساخرين أن يوضع له مسهل فيخف كرشه· تطايرت مقترحات جنسية تعذر التقاطها· وعند مشارف اليأس، وقد دخلت مقدمات المساء، انسل الجمل ببساطة، أحنى جزءه الأمامي ثم انفلت إلى الأمام وسار، دون أن يلتفت، يحاذيه ظل ممتد على الأرض·

الأنوار القليلة في الشارع الضيق يحاصرها الظلام، يغلب عليها اللون الأحمر، رجل في منتصف الشارع يسير ببطء شديد، يتلفت، لعله يريد أن يفعل شيئا، امرأة منتصبة القامة، يتدلى منهـا كيس، تسبق الرجل، لا أحد يلتفت إلى الآخر· وحدي أجمعهما في نظرة واحدة تحاول أن تخترق الظلام، انعطفت هي يمينا واستمر الرجل يتنقل بين الجانبين، ينحني على برميل الزبالة، يرمي شيئا أم يبحث عن شيء؟·· أصبح الشارع خاليا·

أنا الآن منفرد، هل أضع لوحة عدم الإزعاج ؟· أريد أن أدخل الحمام· ها·· لم أحضر عدة الفنادق، نعال للحمام، بيجامة، معجون وفرشة أسنان·· شقتي قريبة لكن الوقت متأخر· سأدخل الحمام بالحذاء، أتصل بنعيم يرد علي، أقول طلباتي: تكرم· يضيف: سيد صالح بدك أصحيك في وقت شي· أنا لا أدري بالضبط متى سيكونان مستعدين لاستقبالي، بدك شي مخصوص على الفطار· تركت الأمر لما بعد· أتأمل السرير، يفيض عن حاجة الشخص الواحد، معد ليغطي حاجة رواد هذا الفندق العابرين· كم رجل وامرأة تعريا هنا؟· لحظة الصدق الوحيد في حياة البشر·· واستغرقت في نوم عميق··

ألهث جريا وراءها···

النائم لا يلتفت، واللاهث جريا تتخشب عيناه عند مسقط رؤيته، تتصلب الرقبة، حالة الجذب في ذلك الهبوط ثم عودة أخرى إلى صعود سلم استدار واستدار فتعددت دوائره،كنت متمركزا عند نقطة واحدة، تشدني إليها ؛ تلك العجيزة الملمومة المندفعة إلى الخلف تتحرك أمامي بقوة صعودا وأنا أتبعها مجذوبا بالفتنة·· أحسست بتحرك الثوب على الجسد· ثمة أصابع تومئ إليّ مشجعة·· لم يكن في تلك اللحظة شيء آخر حاضر·· لا مشاعر لدي ولا رغبة ولكن أمرا يسكن بين الرعب ونسيان اللحظة·· ظل الجسد الأنثوي الذي أمامي يصعد سلما يصله بآخر وأنا وراءه·· يغيب في ظلام ثم تسقط عليه بقعة ضوء، لا يمنعني الظلام ولا يشجعني الضوء، ولكن لهفة المتابعة ولهاثها هما وحدهما اللذان يحكمان الحالة التي أنا فيها، سباق لا نهاية له، لحظات الزمن سير مربوط، شريط أسود يجول في دائرة ممتدة، مسافة الأمتار الثلاثة ثابتة لا تقصر، لا تطول· لا أتقدم ولا أتأخر·

فجأة توقف الجسد فتجمدتُ في موقعي، فالمطاردة وصلت مرحلتها الأخيرة، أقتربُ من الجسد الجميل الممشوق والأجزاء الجاذبة الململمة المكورة أكاد ألمسها، عند امتداد يدي اللتين تركتا حاجز السلم وامتدتا إلى الأمام استعدادا للاحتضان، كانت عيناي تحتويان هذا الجسد، ترى لمعان الرقبة من تحت شعر تفرقت خصلاته، ويأتي انحدار الساعدين بارقا··· وتركز الضوء في النصف العلوي من الجسد· وفي لفتة متأنية استدارت الرقبة خلفا فانتظرت، ملهوفا، وجه التوقعات· وانحدرت صاعقة·· الوجه طبقات من جلد منكمش متقيح بعضه فوق بعض تطل عيون وسط خطوط خد متعرجة سالت فيها، وعلى أطراف أخاديد هذا الوجه سوائل لامعة تكاد تشتعل من فوران الجلد تحتها· تحول المنظر إلى منظر كهف معتم، مرعب، تدلت في أسقفه وتعلقت في حيطانه أجساد وحوش لا تنتمي لأشكال معهودة، كريهة المنظر تلتهب فظاعة· تفجر خوف انفتحت فيه أعصاب مهترئة· أرادت الحنجرة أن تصرخ ولكن الصوت انكفأ إلى الداخل يضرب في الجنبين، صفيرا لا يقوى على الانطلاق، وكان القيح الماثل يميل إلي ّمقتربا، أبحث عن صرخة فلم أجدها· الوجه يقترب مني ليلامسني· اندفع طعم القيح إلى الفم· أميل إلى الخلف أوشك على التهاوي خلفا· مال الجسد، تأرجحت· هويت···

صرخ فاستيقظ··· يمسح عرقه· تمالك بقايا نفسه· أول فعل إشعال سيجارة· رأى فراشه وقد تكرمش· ماذا تعني عودة هذا الحلم مرة أخرى؟· مضت سنوات طويلة على اختفائه بعد أن كان يطرقه بين حين وآخر، غاب في زاوية من حياته يحاول جاهدا الابتعاد عنها، استطاع أن يخفي هذا الجانب في باطن طبقات خفية من نفسه، لجأ إلى الأماكن النائية لكي يضاعف حالة الهروب من ذلك الماضي البغيض، فهل بقي شيء له في هذه الدنيا حتى يعود من جديد، لم يبق شيء ينظر إليه· لا يمكن الهرب مما هو ساكن عند كل ناصية داخلية يصل إليها، مثل كل ما لا نتوقعه ولكننا لا نفاجأ به حينما يأتي وكأننا ننتظره·

تنفس بعمق·· ينظر حوله، الجو مختلف، نكهة خاصة يعرفها، تعود مرة أخرى، تشير إلى مصدرها·

طرق على باب الغرفة· يأتيه صوت:

- أستاذ صالح·· في شي غريب عم يحدث في عمارتكن· في جنبها درك واسعاف وعجئة··

عند باب الفندق لمحت التجمع غير العادي، ثلاثة رجال في شرفة الشقة أحدهما يعطي ظهره للشارع· أفكاري تتصاعد مع حركة قدمي المسرعتين، أتجنب المشاكل فأقع فيها· يحيى·· هل تمكنوا منه أخيرا· التصفيات حل وحيد للخلافات· لا أستبعد أن يكون على القائمة· كلما أصبح السياسي أكثر تفكيرا زادت الخطورة من حوله فيصبح هدفا مختارا·

قال لي حارس الأمن وهو يسير أمامي يسوقني إلى شقتي:

- سألوا عنك مرتين··

باب الشقة المفتوح يكشف عمَن فيها· يلتفت حارس الأمن إليّ مشيرا فتقدم أحد الرجال الخمسة· يمد يده مصافحا، كلمات لبقة بنبرة محترمة، لمحت يحيى جالسا مطرقا·· لم يصب يحيى بأذى· ما الذي حدث إذن؟·

- رغداء·· يا صالح·· ماتت·

أندفع إليه، ألتصق به إلى حد الاحتضان، صوته الذي كان جهوريا وكلماته الواضحة اختفت فلم يعد لها أي حضور، ابتلع الانفعال كلماته، جعلها مجموعة من أصوات شكوى وأنين وحيرة الخوف، بخفاء تتسلل إلى صوته حالة خاصة فيتشكل نواح مخزون كنت أسمعه منه، فيحيى عندما يرق في سكره تنطلق منه ألحان شجية تتكئ على آه تمتد مثل فروع وأغصان شجرة تاريخية يمتد شبحها في الظلام· أريد أن أعرف، ولكن في لحظة الألم تغيب المعرفة التفصيلية· كان جهازه المنطقي قد تلاشى، وحلت محله كلمات الحسرة والألم والتوجع·

الصفحات