كتاب " حمار خلف الجدار " ، تأليف فوزي صادق .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب حمار خلف الجدار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حمار خلف الجدار
أنا في الجنة وأنت في النار!
كان يرمق الركاب بنظرات خاطفة من موقعه بمؤخرة الطائرة قبيل أن تغادر البوينج الضخمة إحدى مطارات أوروبا ، والمتجهة إلي جنوب شرق آسيا ، في رحلة تستغرق نصف يوم على الأقل ، وما إن استوت وسط الأفـق ، حتى خرجن المضيفات الحسناوات من مخادعهن ، وقدمن المشروبات الروحية والوجبات الشرقية ، فأخرج صاحبنا العربي القرآن الكريم ، وبدأ يقرأ بعض السور الكريمة ، وبينما هو مسترسل ، قاطعه تجشأ الراكب الذي يجلس خلفه ، فنظر إليه بحركة التفافية سريعة ، فطأطأ رأسه متمتماً ، وهو يكلم نفسه ومتوعداً بالنار والعذاب والهلاك لكم يا كفار ! كلكم إلي مزبلة جهنم ، وكلما وقعت عيناه على راكب ، قال هذا في الجنة أو النار، وبعد انقضاء نصف الرحلة تقريباً ، شعر الركاب بمطبات هوائية لم يشهدوها من قبل ، وبأصوات شعر بها كل الركاب ، هي شبيهة بضرب وتصافع بين الواح حديد مصدرها جناحي الطائرة ، فأعلن قائد الطائرة بكل صراحة ، وبصوت جهوري تعرض الجناح الأيسر إلي عطب يمنعهم من الدوران أو الالتفاف ، وإنهم الأن معلقون بين الأرض والسماء على ارتفاع يزيد على أربعة وعشرين ألف قدم ، فأضطر أن يتجه بسرعة إلي أقرب مطار كي يتم الهبوط ولقد أخبرت الجهات المعنية بذلك ، وإن سبب المطبات القوية ، هي المنطقة الجبيلة التي يمرون بها الأن ، فأصاب الهلع والخوف كل الركاب ، الكبير قبل الصغير ، وبدأت النسوة بالبكاء والصراخ ، وجلست المضيفات وأرجعت العربات ، وطلب من الجميع التزام الصمت ، واحتضان الوسائد الصغيرة ، فأصبحت المصيبة أكبر ، فهي مزيج بين المطبات الهوائية ، والأصوات التي تخرج من الأجنحة ، وهي محاولة من الطيار أن تستعيد الأجنحة موقعها الطبيعي ، والطائرة في هبوط منحدر ، فبكى الرجال ، وصرخت النسوة ، فالطائرة مليئة بعدد كبير من الركاب ، ومن كل الجنسيات ، والأديان ، فتباكى صاحبنا الملتزم ، ثم بكى حقيقة بحرقة وصراخ وهو يطلب الله ويدعوه وينذر له أن ينجيهم من مصيبتهم .
لقد تعالت الأصوات ، واختلطت الصرخات ، وتعانقت الصلوات ، فسمع وشاهد صاحبنا صلاة ودعاء معظم الركاب ، وكلاً بما يؤمن ويعتقد ، فظهرت الأديان بكل اشكالها ومذاهبها ، وكشف كل راكب عن ما يضمر من إيمان ويحفظ من كلمات ، وطلب كل متديّن ومعتقد حسب فكره ودينه ما يعبده أن ينجيه ، ولأعلى درجات وكلمات التوسل ، ولم لا ! فإنها ساعة الصفر! ومسألة حياة أو موت ! والبحث جارٍ عن أي سبب لإنقاذهم ، فالقشة أمل الغريق ومطلبه ، وهم في صراع بين كفتي الوقت والموت ، والطائرة بحالة هبوط مائل نحو الأرض التي ستبتلعهم .
من الصعب وصف تلك اللحظات ، أو ترجمة إحساس الخوف بكلمات ، إلا بوجود القارئ معهم في الطائرة ، فقد نسي كل غني ماله ، ونسي كل حسن وجميلة صفاته ، ونسي كل راكب جنسيته ولون جوازه ، ونسوا أشكال بيوتهم ، وفخامة سياراتهم ، ونوع أجهزة جوالاهم ، فسمع صاحبنا المسيحيون يصلوّن بأسم الأب ويسوع وأمه أن ينقذوهم وينجوهم ، وسمع من بعيد مناجات عائلة عراقية ، وهم يصرخون ويطلبون الله بحق وجاه محمد وآل محمد أن يكشف عنهم الله السوء ، وسمع يهودي يدعوا الله بنور موسى وجاه داوود ، وبقراطيع التلموذ وبركاته ، إلا ما نجاهم ، وسمع جالية هندوسية تدعوا وتصلي لكريشنا وأخرى لساي بابا ، وسمع عدد كبير من البوذيين يدعون الإله بوذا وبقواته وخوارقه وهيمنته الأربع ، إلا ما أوصلهم إلي بر الأمان .
في الأثناء ، أخرج بعضهم ورقة لكتابة وصيته ، وسجل بعضهم صوته بالجوال ، وأصوات التشهد وذكر الله تسمع هنا وهناك ، والطائرة ضجت بالصراخ ، وكل ما ذكرناه من وصف يتكرر ويزداد مع سماعهم صوت الجناح وهو يتصافـق وكأنه سينكسر وستسقط الطائرة برمتها. لكن اكتشفتنا إنهم مشتركون بطلب واحد ، وهو ( طلب النجاة وحلاوة الروح ) ووصلنا إلي نتيجة إنهم بشر، وتأتيهم لحظات ضعف يعودون فيها إلي إنسانيتهم وتكوينهم ، وإنهم فقراء ومحتاجون إلي غيرهم ، وهو الرب الذي يعطي ويمنع .
هبطت الطائرة بعد جهد جهيد في إحدى المطارات القريبة ، وهي مقاطعة أسيوية فقيرة هندوسية ، إذ وضعت بالمدرج المتواضع رغوة كثيفة ، فنزلت عليها الطائرة ومعها نزلت أرواح الركاب من الخوف ! والحمد لله تزحلق الجميع على سلم الطوارئ البالونية ، وأستقبلهم أهالي القرية بالتصفيق الحار، والماء والأحضان والدموع ، وتعانق كل الركاب وهم يبكون غير مصدقين أنهم أحياء، فرفعوا الكابتن فوق الأكتاف ، وقبلوا رأسه ويديه ، وحينها تمثلت مكارم الأخلاق في الإنسانية والابتسامة والدمعة ، وصاحبنا بطل القصة مازال يقبل الكابتن ويحمد الله ، وفي النهاية رجع كل راكب إلي وطنه وأهله ، وهو يؤمن ويعتقد إن الذي أنقذهم هو ربه الذي دعاه ، وعلم صاحبنا وتيقن إنه ليس بوكيل الله على عباده، وأنه ليس المسؤول عن الخلق ، وأن الجنة والنار ليستا ملكه وهو يعطيها من يشاء.
شرد ذهني ونسيت إخباركم إن قائد الطائرة من دول أمريكا الجنوبية ، ويؤمن بأن الأديان من صنع الإنسان ، وأن الطبيعة صنعت نفسها صدفة ، وقد تطورت بفعل التعرية الزمنية ، ومازال قائد الطائرة مرفوعاً على الرؤوس.