أنت هنا

قراءة كتاب حبة قمح

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبة قمح

حبة قمح

كتاب " حبة قمح " ، تأليف هاشم غرايبة ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
منذ الأزل كان الأمر هكذا..

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

إنني كطفل يطلّ برأسه عن كتف أمه، لا أرى الأماكن والشخوص إلا وأنا منسحب منها أو وهي هاربة مني؛ فسرعان ما تصير ماضياً فتفوتني فرصة المواجهة والتحدّي والإمساك باللحظة.. كذلك كانت علاقتي بالعالم، وكذلك سمائي الخاصة صدفة ذهبية تقطر لي حَرَّ الشمس دافئاً فأنسحب من عالَم ألِفته إلى عالَم أجهله.

أَنظر إلى الماضي بعناد وسخرية، أذكر مكاناً ترابياً، أذكر نقطة ماء عبر غلاف أخضر شفاف يسمونه «قطرة الندى»، وأذكر لسعة برد، أذكر نقطة لبن دافئة.

في لحظةٍ ما تتجمّع كل الصور الكامنة فيَّ، فتشتعل مخيلتي... الخيال محطة توليد لطاقة هائلة تهبني العزم لأشكّل من سمائي الذهبية الصلبة أردِيَةً ملَكيةً.. فأختال متباهيةً بنضجي، وأزيّن صدري بقلائد، ومعصمي بأساور، وأعلّق قرطين من ياقوت أخضر بأذني وأمسح بالكحل عيني... ولحظة أضع تاج الكمال على رأسي أشعر بِحَرٍّ شديد من حولي، ونار تشتعل داخلي فأنزلق من ملكوتي، وأطرق أبواب الأرض باباً باباً لأخْلُصَ من هذا الجحيم فيتلقّاني حرّاس الأرض باحتفال مهيب يسمّونه «الموسم».

حارسٌ إثر حارس يجرّدونني شيئاً من زينتي وجواهري.

أَصِل إلى الأرض منْهَكةً، فأُسرع للتواري بذرّات التراب -إن واتاني الحظّ-، ثم أترك سرّتي لرطوبة الأرض وأنتظر مصيري.

دائماً أنجو فلا أذهب إلى الطاحونة.. لكني رأيت الكثير من مثيلاتي طَويْنَ سُرَرَهنّ الماسيّة وذهبن إلى العدم. الجزء الأعظم من إخواني -هل سبقَ أنْ قلتُ: لا معنى للتذكير والتأنيث في عالمي؟- يذهبون إلى الطاحون، فيفقدون كينونتهم بيسر ويتحولون إلى ذرّات دقيقة، ثم يُخلَطون بالماء، فتغمرهم سعادة مؤقتة بهطول المطر، وينتشون في هذا الامتزاج المتجانس، لكنهم لا يلبثون أن يُصْلَوا ناراً حامية فلا تعود ذرّة الواحدة منهم تدرك من أين جاءت؟ ولا إلى أين مصيرها؟ لكنها فرِحَةٌ بتحرّرها من سلْطة الكينونة التي كانت دائماً تجبرها على التشكُّل من جديد مثلما ملايين الأشياء ذات المصائر الغامضة.

في تلك الأوقات العصيبة -بُعَيد ما يسمى «الموسم»- كنت أشعر بخوف متواصل؛ فأتكوّر في ملجئي.. أغلق عينيَّ ولا أفتحهما، محاولةً الحصول على الخصوصية التي أحتاجها لأميّز نفسي بين هذا الكمّ الهائل من أشباهي.. وأستعيد شريط حياتي بشكل متقطِّع مشوَّش، فأحبط، وتفتُر همَّتي وأتوقّف عن التفكير، كل شيء في أوانه عاديّ المذاق.

الصفحات