كتاب " حبة قمح " ، تأليف هاشم غرايبة ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
منذ الأزل كان الأمر هكذا..
أنت هنا
قراءة كتاب حبة قمح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

حبة قمح
في سن التاسعة عشرة وجدْتُها إلى جانبي. صَبِيَّةً لها عينان بصفاء السماء، كانت تتكلم اللهجة العراقية بلكْنة جنوبية، وكنتُ أتكلّم لهجةً حورانيّة أصيلة، وتحاورنا بكلمات مرتبكة أوقعَتْنا في سوء فهم حميم.
خرَجنا من الامتحان الأخير معاً، ومشينا تحت الشمس اللاهبة.. كان ثمّة راديو يغنّي: «ياللي جرّة سما بعينك، خاف افزّزها من أقلّك. أنا أحبك..».
شربنا ماء من «سقاية الحاجة عيوشة»، واستدرنا إلى «باب المعظّم»، ومشينا في «شارع الرشيد»، ووصلنا مربعة «حافظ القاضي» فدخلنا مطعماً مكتظاً بالزبائن؛ حشرنا جسدينا على طاولة متواضعة بين غرباء فَظّين.. ثم تابعنا المشي فرحين.
عبرنا إلى شارع «أبو نواس»، ثرثرنا عن كل شيء، وكُنّا نستعين باللهجة المصرية لتصحيح سوء الفهم.. ووصلنا «المسبح»، ثم عدنا في الباص إلى مجمع الميدان.. ولَمّا حانت لحظة البوح بما اختزنَتْهُ صحبة عمْرٍ كامل من التآمر على رغباتنا الوردية.. افترقنا بصمت.
***
«العينان هُما هُما، والسرّ هو السرّ، لم يتبدّل!».
ابتسمَت لي ابتسامة عذبة حنونة وكأنها تقول: «فرصة طيبة»، ابتسمْت لها ابتسامة عريضة: «أهلاً..».
في التاسعة والعشرين. كانت «الفرصة الطيبة!» في مستشفى «ماركا» القريب من سجن المحطة في «عمّان». كان لها مشكلتها، وكان لي مرَضي. تبادلنا تلك النظرة التي تزعم أننا نعرف بعضنا بعضاً منذ الأزل، تحدّثنا بلغة مرتبكة خوفاً من وقوع المعاني في آذان من حولنا، وقعنا في سوء الفهم اللذيذ.
خرجنا من الحافلة إلى عنبر المساجين في المستشفى.. تهرّ الذكريات والأطياف والروائح.. أرى عالم الحرّية الرحب في عينيها. ويأتينا صوت فيروز من حافلة عابرة:
«وعيون بتقول اسكني فيّه، وطيري يا دني.. ويا ليل ليّل ع الدني يا نجوم عَ الأرض انزلي».
يفكّون القيد، أمشي للعنبر المخصص لنا في المستشفى، عند يمين المدخل مكتب يجلس خلفه شاويش تكدّسَت أمامه عشرات الأضابير، وعلى يمينه خزانة قديمة مليئة بأوراق غير مرتّبة، يسار العنبر أُقيمَت مغسلة قذرة، وعلى الحائط عُلّقت كلبشات معدنية لامعة. هل للفظاظة مكان هنا؟!..
التقطنا فرصة انشغالهم بأوراقنا، فتكلّمنا كأنّنا نعرف بعضنا بعضاً منذ الأزل، ودار فينا العنبر الكئيب كدولاب الهوى.. وعند اللحظة التي لا بد منها؛ نادى الشاويش اسمي:
«عمرك.. التهمة.. مرضك؟».
.. وافترقنا!

