كتاب " ويزهر المطر أحيانآ "، تأليف نيرمينة الرفاعي ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ويزهر المطر أحيانآ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ويزهر المطر أحيانآ
أبو زيد بقامته الطويلة يتعالى عن إبداء الحزن.. يكللُ الشيب رأسه كالثلج على قمة الجبل.. يخفي دموعه على فراق ابنته.. يخفي حزنه على فراق زوجته التي توفيت منذ أقل من سنة.. يخفي حسرته على فراق ابنه زيد الذي ذهب إلى بلاد الغربة ونسي رائحة الأهل والوطن.
لم يتبقَّ لهذا الرجل عالي الهامة والشموخ سوى عمله يواسيه خلال النهار.. وبعض الأصدقاء يواسيه بعد العمل في لعبة الورق أو لعبة طاولة الزهر، وارتشافِ الشاي الأسود الثقيل.. وعندما يعودُ إلى فراغِ منزله فأنا متأكدة أنْ لا شيء يواسيه.. سوى بعض الصورِ والذكريات.
عندما توفي أبي، ارتبطتُ أكثر بعمي أبو زيد، فهو مرآة أبي.. تشاركا طفولتهما في أحضان القرية الجبلية نفسها في عجلون.. كم أشعر بالسعادة عندما ترنّ لهجة أبو زيد في أذني مذكرة إياي بلهجة أبي.. وكم أفرح عندما أسمعه يردد كلمات أبي نفسها.
أما أمي فقد لحقت بأبي بعد أشهرٍ قليلةٍ من رحيله، كان الزوجُ في عرفها هو الحياة، ولم تكن لها حياةٌ بعد رحيلِ أبي، كانا مربوطين بشريان واحد.. لا يمكن لأحدهما أن يستمرَ بالحياة دون الآخر.. لذا لم يفاجئني موتها بهذه السرعة بعد فراقها لأبي، بل ربما كنت تفاجأتُ لو أنها استمرت في هذه الحياة!
لم يكن لي إخوة أو أخوات، بكيت أبي.. وبكيت أمي.. وبقيت وحدي.. لا أحد لي سوى عمي أبو زيد.. ومعاذ.. وعملي!
الآن وقد ذهبَ معاذ فلا بدّ أنْ أستعيد عملي، كنت أعرفُ أني ما إن أطرق باب المكتب حتى أستعيد وظيفتي، لا لمحاباةِ أبو زيد لي.. ولا لصداقته القديمة مع أبي، ولكنني كنتُ فعلاً أجيد عملي..
كنت محاميةً أنجح في كسبِ القضايا كلها، إلا قضيتي..
كنت أتحدى القضايا كلها، ولكنني لم أجرؤ يوماً على مواجهة نفسي..
لا أعلم لم تنتابني الشجاعة عند الدفاعِ عن الناس، ويتلبسني الجبن فجأة إن حاولتُ الدفاعَ عن نفسي!
ما قضيتي؟ قضيتي أختصرها بجملة واحدة، إنها فقدان الدهشة في حياتي..
سمعت مرة مثلاً ألمانيا يقول إن السمكَ الميتَ وحدهُ هو الذي يسبحُ مع التيار! وأنا لا قضية لي سوى مسايرتي للتيار الذي يجرفني إلى حيث لا أعلم.. فأنا لا أختلفُ عن السمكة الميتة في شيء! أما الدهشة... فقد نسيتها منذ زمن بعيد..
لا تستهينوا بأهميةِ الدهشة!
نحتاج جميعنا إلى الاندهاشِ بين الحين والآخر كما نحتاج إلى الخبزِ والماءِ، فالدهشة في عيني الطفل عندما يرى الثلج لأولِ مرة هي التي تدفعه إلى اكتشافِ شعور البرد.. توقظُ فيه القشعريرة... وتشعلُ تلك المعركة الأزلية بين الدفء والبرد.. بين الخير والشر.
والدهشة في عينيه عندما يلمس التراب لأول مرة هي التي تدفعه إلى اكتشافِ شعور الجاذبية الأرضية..
هي التي تربطه بترابِ وطنه وتعلمه الوطنية..
رائحةُ الترابِ تتغلغلُ إلى مسامات جلده لتمنحه، هو المخلوق الترابي الصلصالي، بصمة وطن... وتمنحه لقب مواطن..
لولا دهشة اكتشاف التراب ربما لم نكن لنكتشف الوطن!
كم أحتاجُ إلى الدهشة التي تحفزني على اكتشافِ الجديد في حياتي، فما عاد شيء قادراً على إثارة دهشتي.. وهذا أكثر ما يؤلمني..
أعتقد أحياناً أن تذكري لذلك الحبيب البعيد ما هو الا جرعةٌ من الدهشة أواسي بها نفسي.
كان ينجحُ دائماً في اشعالِ النارِ في حطبِ حياتي الجافة.. كان دوماً يفاجئني، يثير في داخلي مشاعر لم أكن أعلم بوجودها، يلمس بأصابعه شرياناً جديداً في جسدي، فتتدفق الحياة في عروقي المتخشبة..
هو وحده مَن يضيء الجنبات المعتمة في أضلعي، كأنما احتكر النور بين أصابعه، فكان حبّي له أعظم وأجمل اكتشاف وقع عليه قلبي.
أذيب هذا القلب المليء بحبّه في فنجاني كل صباح.. أرتشف قلبي.. وأبلع ذكرياتي.. فأفرح كالطفلة التي تلمس الثلج والتراب لأول مرة..
أفرح لأن التراب جاءني على شكل رجل... أو ربما لأن رجلاً جاءني على شكل ثلج ونار!