كتاب " رسائل حب بالأبيض والأسود " ، تأليف طلال زينل سعيد ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنش
أنت هنا
قراءة كتاب رسائل حب بالأبيض والأسود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
محمّد صابر عبيد بقلمه
أعرف طبعاً أنّ العرب لا يحبّذون حديث النفس، لأنّه يدخل عندهم أخلاقياً في باب الغرور والنرجسية وحبّ الذات، لكنني حين قرأت ((رولان بارت بقلم رولان بارت)) وهو كتاب إيروسيّ في المقام الأوّل على أيّة حال، اكتشفت كم أنّ بوسع المرء أن يتحدث عن نفسه بأهمية وجدانية وروحية وثقافية وفلسفية لا تضاهى، ربما يتاح للمرء أحياناً أن يلتقي بأناس حميمين ومخلصين وقريبين جداً من النفس والروح والرؤيا والمثال، يتدربّون بحكم زمنِ التعامل والتفاعل والمحبة والثقة والصدق المناسب على معرفته وفهمه وإدراك قيمه الداخلية العميقة وفضاءاته الواسعة، غير أنّ ثمّة طبقات عصيّة وغائرة وغائبة ومسكوتاً عنها ليس بوسع أحدٍ- مهما كان- اكتناهها وتقصّيها والوقوف عليها وتلمّس محتوياتها بدقة ومعرفة ويقين وحسم.
ولي أن أقدّم نفسي هنا بقلمي، حيث بوسعي أن أتجوّل حراً في الزوايا المظلمة، والنتوءات الغامضة، والكهوف التي لا يسمح الدخول إليها، والمغاور التي تختزن الأسرار والمسرّات والخطايا الجميلات، كلّما كان ذلك ممكناً ومتاحاً وضرورياً وقابلاً للحديث في الوقت الراهن على الأقل.
عرفت مبكراً أنني سأكون كاتباً ورحت أتغذى على هذا الحلم، وأرعاه بما تيسّر لي من الأماني الممكنات، وأرسم ملامحه، وأصوّر شكله، وأستعين بما تطاله يديّ من الأدوات المتاحة كي أسرّع في تحقيقه ما وسعني ذلك، فقرأت الكثير من الكتب التي سرعان ما اكتشفت أنها لا تسهم عميقاً في اكتشاف منطقة الحلم كما يجب، وكانت البيئة التي أعيش فيها غير معنية البتة بأحلامي، ولم يكن في محيطي من يعلّمني كيف يمكن أن أعيش الحلم وأتوغل فيه وأتمكّن منه، الكلّ معنيون بنشيد العيش المرّ، يتلمّسون شمس الواقع بكلّ ما فيها من حرارة وبلادة وقهر، ولا وقت لديهم للحلم.
ربما كنت غريباً وضعيفاً ومشتتاً وهشّاً وسريع العطب، أنفقت وقتاً كثيراً ألعب بأغلب التوافه التي كانت تتوافر في ما حولي، وربما كانت رغبتي العنيفة بالمقامرة بشتى أنواعها ليست سوى تعبير عن الضيق بمحدودية ما أرى وألمس وأعي وأتخيّل، فانغمست بشتّى أنواع المقامرات من أبسطها حتى أعقدها، فكنت بسبب ذلك من روّاد المقاهي المدمنين، وتعرّضت لمطاردات من والدي الذي كان يرى في ذلك عملاً مشيناً، لكنني لشدّة ولعي فيه ظللت أمارسه بشغف ومتعة، ربما حتى وقت متأخر من حياتي حيث شعرت بنوع من الإشباع فتركته تماماً.
كنت أشعر بقوة أنّ لديّ ما يحتاج إلى رعاية وسقاية وعناية واهتمام وكشف، لكنّ أحداً لم يساعدني في ذلك في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إلى من يدرك معاناتي ويشعر برغبتي الجامحة في معرفة نفسي، كنت ضائعاً لا أعرف ماذا أفعل، ثمة شيء في أعماقي يثور ويتفجر ويبحث عن مفاتيح للانطلاق يكاد يخنقني، حتى كنت لا أهتمّ بدروسي كثيراً مع من أنني أنجح دائماً، أعترف هنا أنّ طفولتي كانت معذّبة ومرتبكة وقلقة وليست على ما يرام، كنت مهموماً بأشياء لا أعرفها على وجه التحديد، اتسمت طفولتي على العموم بالانغلاق وقلّة الفرح وكبح جماح الرغبات.
وحين عرفتْ قريتي ((زمار)) الكهرباء وصل أول تلفزيون إلى مقهى ((محمد الكامل)) الذي كان يتقاضى ((عشرة فلوس)) ثمن الجلوس وعشرة أخرى ثمناً للشاي، وحيث سحرني هذا التلفزيون العجيب بدأتْ مشكلةٌ أخرى مع أبـي الذي كان يحرص على أن لا أتأخر ليلاً حتى يغلق التلفزيون شاشته والمقهى أبوابها، وأنا آخر من يغادر المقهى لأجد باب بيتنا مقفولاً وأضطر إلى إيقاظ الجيران كي أصعد على سطوح بيوتهم ومنها إلى بيتنا، وعلى الرغم من ذلك لا يعفيني أبـي من عقوبات كانت قاسية جداً وقتها، ولم أتعب من الاستجابة لرغباتي مهما كانت قسوة العقوبات وعنفها.
ثمة مرحلة طفولة أجدها نائية جداً تتلبث في أقاصي الذاكرة مشحونة بالكثير من الضباب والظلام والغبار تسبق هذه المرحلة غير قابلة للتمييز والتعيين والاستعادة، كان فيها أبـي يتعالج من مرض التدرّن الرئويّ في بيروت، مع مجموعة من عمال شركة نفط الشمال في حقول نفط عين زالة، إذ ابتعثتهم الشركة إلى مصحّات هناك للعلاج استغرقت بعثتهم ربما ثلاث سنوات أو أكثر، وكان أخوالي هم من يشرفون على رعايتنا مع اهتمام يبدو لي الآن بسيطاً لا أتذكره مليّاً من عمي الذي هو ابن عم والدي، لأنّ أبـي ليس له أخوة ولديه أخت وحيدة من زوجة أبيه الثانية كانت بالنسبة لي أكثر من أمّ، وليس بوسعي الحديث عن هذه المساحة من طفولتي أكثر لأنني حين التفت إليها في الحقيقة لا أجد ما يمكن الحديث عنه على وجه الدقّة والوضوح والضرورة والأهمية.
تفتّح وعيي مبكراُ، نعم، ولكن بلا فائدة كبيرة، إذ كان هذا الوعي المتفتّح مبكراً بحاجة إلى تثقيف وتمرين وتمتين وتخصيب وإثراء، لكن شيئاً من هذا لم يحصل حتى وقت متأخر جداً، فأين هذا الذي يمكنه أن يساعدني في مجتمع لا يهمه سوى التفكير المحدود في لقمة العيش، وكان مضرب شركة حقول نفط عين زالة قبلةً لكلّ أبناء القرية التي ما أن يحصل أحدهم فيها على أيّ عمل- مهما كان متواضعاً أو وضيعاً- حتى يعتقد بأنه نجا وأنّ أبواب القدر الغامض انفتحت له، وغير ذلك كان الفلاحون ينتظرون مواسم حصاد الحنطة والشعير ليرتّبوا أمورهم المعيشية على أساسها، وكم تعذّب الناس في سنوات القحط التي يقلّ فيها كرم الطبيعة ويكون شتاؤها الغادر بلا أمطار.