كتاب " الشجرة النادرة " ، تأليف مرام شهاب ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب الشجرة النادرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الشجرة النادرة
(3)
ومع مرور الوقت كانت الأيام تبني بين الطفل والرجل العجوز علاقة متينة على الوعد بينهما ويتمثل في ري الشتلة والفرنك معا كعمل مشترك، فازداد تعلق الطفل بالعجوز، مما نتج عنه لقاء يومي وحديث يدور بين العجوز والطفل الصغير، تنمو الشتلة وتكبر، وتتقوى العلاقة بتنوع الحديث اليومي الذي كان يحتاج إليه داني، لإشباع المفاهيم التي تتوفر فيها الإجابات لأسئلته المختلفة، التي تدور في ذهنه و نفسه، ففي كل يوم يكتشف داني إجابات ملائمة للأسئلة، وينهل من جعبة الرجل العجوز المعلومات والحكمة، ويكتسب التجربة، وأصبح العجوز حاجة ملحة في حياة الطفل داني مع مرور الوقت، وازداد الترابط بينها، وأصبح الطفل قريباً منه بمشاعره وجزءاً مهما في حياته. وفي يوم من الأيام ذهب داني إلى الأرض كعادته التي اكتسبها بفضل ذلك الرجل العجوز، فلم يجده فشعر بالخوف وتملكته الحيرة وساورته الظنون، وخفق قلبه بشدة، وفاضت عيناه بالدمع، فأخذ يلتفت حوله تارة وينظر إلى السماء تارة أخرى، ويمسح دموعه التي تنهمر مدرارا، تنسكب مرة على الشتلة، ومرة أخرى على الفرنك، تحدثه الدمعات في هذه اللحظات وتوشوشه: لا بشر حولك سوى صوت الرجل المسن وكلماته التي كان قد غرسها في خاطرك وفكرك. وكانت نسمات من الهبات الجبلية من الهوى تداعب قميصه وخواطره ووجدانه، وتحرك قبعته الصغيرة، فيتموج الزرع وينحني، وتميل رؤوس السنابل تلتفت معه تترقب، ترتفع إلى السماء تقلد حركة أمل، فحمل داني ألمه داخل صدره، وعاد أدراجهُ بخطوات متثاقلة إلى المنزل، لم يخطر يوماً في ذهنه أنَّ الرجل العجوز سيختفي من حياته وقد بلغ داني من العمر عشر سنوات، وكان قد استمر في لقاء وتواصل دائم مع العجوز لمدة خمس سنوات على الأقل، وصل داني إلى منزله دخل منهكاً من التعب، وفي حالة من الحزن الشديد ثم ألقى التحية على والديه، وكانت علامات الحزن بادية على محيّاه، وعلى ملامح وجهه الصغير.
جلس بقرب والده الذي بادر بالتعبير قائلاً: لا تحزن يا بني فأنا أعرف سبب حزنك، وضمه إلى صدره عندها انفجر داني بالبكاء، كان الأبوان يساهمان بطريقه غير مباشره طوال السنوات التي قطعها داني مع الرجل العجوز، وكانا في حالة من الرضي بسبب العناية التي يقدمها الرجل العجوز لداني، وهو يبحث ويكتشف ويتعرف على الإجابات الكافية التي تراود أسئلتها مخيلته، وتبني كيانه وشخصيته، وتشبع نهمه وحبه، نهض الأب من مكان جلوسه، وأخذ بيد ابنه، قبض عليها كناية عن مشاركته الإحساس بالخوف، ثم قال: أعرف أين العجوز موجود الآن، لقد شعر بوعكةٍ صحية تم على إثرها نقله إلى المشفى المجاور للقرية، هيا بنا إلى زيارته. وسوف نكمل الحديث بالمركبة، لقد خشي الأب في هذه اللحظات الحرجة إخبار داني بالمزيد عن حالة الرجل العجوز الصحية، التي قد تتطور إلى الخطرة. وعند صعودهما إلى المركبة كان داني صامتاً لا يتفوه بأدنى كلمة، كان ينظر من نافذة السيارة وهي تسير، ويقدر بذاته المسافة التي يقطعها كل يوم من أجل لقاء الرجل العجوز، وكأنه يرسم المسافة بقلم حدد فيه عدد السنوات التي قضاها بالوعد الصادق حتى اللحظة، وكأنه يرسم بقلم دقيق، بدأ من منزله مع أول سؤال حتى انتهى للمشفى الذي يرقد فيه الرجل العجوز، وصل داني ووالده إلى مكان العجوز، وانطلقا مسرعين إلى غرفة العناية المكثفة عندها كان المشهد غريباً جدا بالنسبة لداني وغير متوقع كالذي كان في مخيلته، فلم يكن يشبه العيادة التي يذهب إليها عندما يكون مريضاً، لكن الأمر الواقع قد يجبر في أغلب الأحيان أن نتقبله بنفس قبول داني كما يراه, تقدم نحوه وقلبه ينفطر من الألم، حتى وصل السرير بعيون دامعة وكفين مرتعشتين، وقف قرب رأس الرجل العجوز وجعل بيده الصغيرة يلمس وجهه، الذي يبدو وكأنه يغرق في النوم.
فتح الرجل العجوز عينيه، وحاول بصوت أجش يكاد لا يُسمع أن يشجع وجوده بالرغم مما هو عليه، فعززه بقوله: داني! أنت هنا؟ لقد كنت معي دائما أجدك بقربي، آه يا صديقي الصغير، لقد أوفيت بوعدك، وكنت تروي الفرنك جيدا عندما كنت أنا نفسي أروي الشتلة الصغيرة، لقد كبرتْ وأصبحت شجرة نادرة.