كتاب " أجراس الخوف " ، تأليف هشام مشبال ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة الكتا
أنت هنا
قراءة كتاب أجراس الخوف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثم اقترب منها أكثر محاولا أن يجذبها بيديه الخشبيتين ويبعدها عن ركن المجلة الحائطية، لكن عاطف شعر بأن الموقف سيحتد فحاول التدخل وإنهاء الخلاف. وما أن لمس كتفه حتى شعر بلكمة قوية انهالت على وجهه فسقط على الأرض مفزوعا. أما لبنى التي هالها المشهد التفتت إلى الجهة اليسرى من الممر وانسحبت إلى خارج الكلية وهي تفكر في الشاب النحيل ذي الشعر الأملس المسبسب الذي حاول أن يدافع عنها.
أسلمت نفسها للطريق الطويلة التي تفصل بين الكلية والحي الجامعي حيث أمضت سنوات تعليمها في غرفتها الباردة ذات الجدران المهترئة. ربما تعودت المشي الطويل الذي يمكنها من إفراغ كم الغضب الذي يجتاحها بين حين وآخر، وربما الدراهم القليلة التي بحوزتها نفذت وينبغي الصبر حتى يرزقها الله من حيث لا تحتسب كعادتها دائما وقت الحاجة. ظلت تتبع الطريق الطويلة وكان عقلها حينئذ يتراوح بين تأمل حذائها المشقق والبارد وبين وجه الشاب الشاحب ذي الملامح الدقيقة التي لم تتعرفها إلا في هذا اليوم المشؤوم.
حارت في تفسير حالتي التوتر الشديد والانفعال الحاد اللذين يبدوان على ملامحها؛ هل بداعي ما حصل للشاب النحيل، أم بسبب كلام ذلك الأبله ولسانه الطويل؟.. وعندما تستقر على رأي ما، تصمت طويلا وتخلص إلى أن السبب هو شعورها الدائم بأن ما تخفيه أيامها المقبلة يحول حياتها إلى خوف مستمر.. بيد أن كل هذا مجردُ عبث أفكارٍ توقدها هذه الشمس العارية. حاولت لبنى أن ترفع عينيها إلى السماء لكن الأشعة المجنونة غشت عينيها. أرادت أن تغطي قرص الشمس بدفتر تاريخ التقطته من حقيبتها ولكنها شعرت بإنهاك شديد لم تستطع على إثره أن ترفع يدها. لقد رسخ لديها أن الاستمرار في المشي طويلا تحت هذه الأشعة كل يوم سيعرضها إلى ضربة شمس حادة وهي لا تحتمل. جف جسدها من الماء والدم واستحال إلى قطعة خشب يابسة. وخلال تلك الدقائق الحزينة كانت بعض السيارات تمضي بجانبها وتبطئ سرعتها. تطل من نوافذها رؤوس متشابهة تردد كلاما بذيئا وتصطنع ضحكات صدئة وتبعث من عيونها الوقحة نظرات استفزاز. أوهمت لبنى نفسها أن سبب قلقها هو هذه النظرات التافهة، ولكن الشيء الذي حزَّ في نفسها واقتلع منها نسيم الحرية وطعم الفرحة أن الآلام تأتي دفعة واحدة، وأن الحياة السعيدة التي سعت إلى تحقيقها طوال عمرها الفتي ستظل مجرد أمنية تحول ذاتها الصغيرة التائهة إلى ظل منكسر.
وما بين الشعور بالخوف واليأس والحلم الباهت مضت لبنى في طريقها المفعم بالشوك تجادل أعماق أفكارها. هي دوما تحسب خطواتها جيدا وتفكر بما تخفيه الأيام المقبلة، ولكنها أحيانا تستسلم لذلك اليأس القديم النابع من أقاصي تاريخها. تتذكر أباها قليل الحيلة الذي جمع كل آفات الدنيا، وأخاها الذي جلب العار للعائلة حين اكتشفه صبيان القرية في كل مخابئها يمارس الرذائل. تشعر بضيق شديد حين تسترجع شريط الذكريات المر، ولكن حنقها يشتد أكثر حين يطالعها وجه أمها المتعب.. تراها واقفة أمام باب الدار لحظة السفر تحمل آنية مملوءة بالحلوى الطحينية والرغيف. تمدها إليها وتحضنها بكل جوارحها الحزينة وتقول: ربنا معك ياابنتي في كل لحظة وخطوة.. ثم تدخل يدها في حزام التف حول خصرها وتخرج ورقة نقدية مهترئة من فئة مائتي درهم وتقدمها لها.. تقول وقد غلبتها الدموع، لو كان بيدي.. ولكن لبنى تقاطعها وتقبل يدها وجبينها ثم تلتفت إلى الطريق كي لا تواجه حزن أمها وهي مكسورة الجناح. تركب الحافلة القديمة المهترئة.. وجوه بائسة متصلبة ومتجعدة الملامح لا قطرة دم فيها ولا حياة.. تطل لبنى من النافذة المتسخة على صفحة البحر الشاسع الممتد أمامها.. صورة أمها تلازمها.. ينقبض قلبها.. يخفق.. تقسم أن تعوضها كل عذاب السنوات الماضية.. لن ينهرك أبـي ولن تسمعي كلام أهل القرية الذي يسم القلب كل ثانية.. تلتفت ثانية إلى الطريق.. تشعر وكأن الشمس تحترق في أحشائها.. يبدو الحي الجامعي أمامها مثل سجن أبدي.. غرفتها زنزانة عارية لا دفء فيها ولا ألفة.. ومع ذلك فهي تحمد الله أنها تملك مسكنا يحميها من الخوف. تفتح باب الحجرة فتخنقها رائحة السجائر النتنة. تلقي التحية على مليكة بنغمة مصطنعة تفاديا لشرها:
- أهلا مليكة..
ترد عليها وكأنها ستدخل معركة:
- قلت لك أيتها البلهاء اسمي ميري، ألا تعرفين..؟
تطرق لبنى قليلا وتردد في نفسها:
- كان ينبغي أن يسموك عنزة.. أيتها النعجة الوقحة.