كتاب " أجراس الخوف " ، تأليف هشام مشبال ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة الكتا
أنت هنا
قراءة كتاب أجراس الخوف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
- الحقيقة أن الأستاذة منى الرشيدي التي ستنضم إلى كليتنا هذا الصباح ستحل محله، وأرجو منك أن تساعدها في الشهور الأولى بخصوص المشروع وطبيعة العمل..
ظل نجيب صامتا يفكر في وجود امرأة إلى جانبه ربما تكون ثرثارة في مكتب صغير لشهور طويلة.. شعر بالضجر والتقزز ولكنه انتبه بسرعة إلى أن صمته ربما يفسر خطأ، فقال:
- ليست هناك مشكلة.. بكل فرح..
ولكنه في الحقيقة شعر بنوع من الارتياح.. ثم تمتم وهو يضع خطا ساخرا على شفتيه ويرفع حاجبيه:
- ربما تكون هذه المرأة أفضل من حسن القاسمي الثقيل والأبله.. مضت سنوات طويلة لم أجن معه فيها سوى الثرثرة والملل ورائحة عرقه التي تشبه الكافور..
يذكر نجيب جيدا لقاءه الأول بمنى. لم تكن تتكلم كثيرا. تسأل أسئلة موجزة وعملية. تنجز بهدوء وإتقان كل مهامها ولا تؤجلها. اعتادت كما قالت له فيما بعد أن تكون حاسمة ومنظمة.
في ذلك اللقاء الأول جلست منى إلى مكتبها وقد علت خديها نقطتان حمراوان، ثم راحت تتفحص أوراقا متراكمة فوق المكتب.. ساد صمت قصير وهادئ الفضاء العليل في تلك اللحظات، بينما انسحب نجيب إلى أعماقه شاكرا الله أنها ليست امرأة ثرثارة كما يبدو.. إن فراسته في الحكم على الناس لا تخطئ أبدا. فقد علمته السنوات أن يكتشف خبايا النفس من النظرة الأولى.
جميلة وهادئة. متوسطة الطول لا يعاني جسدها أي زيادة أو ترهل. عيناها تميلان نحو الشرود المتواصل.. وبين لحظة وأخرى تتنهد فجأة كأن أشباحا تطاردها في الأعماق. مضت شهر وصمتها يزداد.. حتى تحية الصباح التي يلقيها نجيب لا ترد عليها في أحيان كثيرة وكأنها لا تسمع قط صوته الذي يخرج من حلقه باردا كالثلج.
وذات مساء رفع نجيب عينيه إلى منى بينما كانت هي بعيدة.. شاردة كعادتها. التفتت إليه وكان قد مضى على جلوسه إلى مكتبه دقائق طويلة. انتفضت فجأة وكادت تصرخ. لكنها شبكت يديها ووضعتهما على صدرها وهي تقول بتوتر:
- أستاذ نجيب.. مساء الخير.. متى دخلت المكتب؟
- قبل ربع ساعة تقريبا.. ألقيت التحية لكنك لم..
- آسفة جدا.. والله لم أنتبه إلى وجودك إلا في هذه اللحظة..
عاد الصمت ثانية بينما تردد نجيب في الكلام.. ثم سرعان ما قال:
- فيم تفكرين؟
لكن شعورا حادا بالارتباك سيطر عليه في تلك اللحظات.. جف ريقه وتصلبت أطرافه وصعد الدم إلى أذنيه جارفا معه توازنه، ثم راح يوبخ ذاته:
- ماذا فعلت؟ لماذا تتدخل في خصوصيات الآخرين ولا تريد أن يتدخل أحدٌ في حياتك الخاصة.. ما الذي دفعك إلى أن تسأل هذه الأسئلة التافهة؟..
ظل يجلد ذاته منساقا وراء طبيعته العنيدة. بينما قالت منى وقد رسمت ابتسامة كبيرة على شفتيها:
- في الشرود..
أما خارج المكتب فكانت الكلية حينئذ تقفل أبوابها.
فتح عاطف باب الفيلا الخارجي بحذر شديد ثم تسلل إلى غرفته عبر الدهليز الذي يؤدي إلى المطبخ وغرفة الخدم. حاول أن يخفي آثار اللكمة البادية على وجهه لكنه لم يفلح. فبعد دقائق كانت والدته تقف فوق رأسه مكشرة الملامح.. حادة النبرات. تتطلع إليه بعينين منهمكتين في الحيرة والعتاب الخفي. ظلت تسأله بعنف عما حدث؛ كيف ومن ومتى ولماذا؟ بينما انسحب هو إلى دائرة الخوف التي رسمت حياته منذ الصغر فلزم الصمت. لكنها صاحت بقوة ورفعت يدها إلى أعلى وهي تقسم بالله ألا تغادر غرفته حتى تعرف. ظل يراوغ في الإجابات محاولا في الآن نفسه إخفاء آثار اللكمة، لكن أنيسة حاصرته حتى اضطر إلى الكذب الذي لا يعرفه. تمتم وكانت أنفاسه حينئذ تتقطع:
- السياسة ممنوعة.. والاختلاط بالبنات ممنوع.. لم أعد طفلا.. ينبغي أن تدركي ذلك.
انتابه في تلك اللحظات شعور غريب، فهو يعي جيدا كمَّ العلل التي تأكل قلبه؛ لقد استطاع أن يجادل في الوقت المناسب ولم ينهزم أمام هشاشة الصوت النابع من الأعماق. ولكن أنيسة قالت وهي تلطم وجهها وقد أصابها الهياج:
- عندما يأتي أبوك..