كتاب " نجمة " ، تأليف كاتب ياسين ، ترجمة السعيد بوطاجين ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
قراءة كتاب نجمة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نجمة
3
انسحب السيد ريكارد من فراشه في حدود الخامسة، ارتدى سروالا مخرما وابتدأ يطن متعقبا ظل الخادمة، الأحذية في اليد وهو يرتطم بالأسوار والأثاث المصقول. كان ثقيلا، مزعزعا، صاخبا كالذباب الذي قاطع الفاصل الزمني لليله فراح يتبعه بهياجه المتعثر، وبإسفافه في الاحتجاج على هذه اليقظة التي بلا حرارة الشمس، ومن دون حبور النهار الذي كان سيخرجه من الخدر بليونة، لو لم يقفز هذا المقاول المسن من سريره كعادته مع صياح الديك، مع أن حافلته لا تنطلق إلا بعد ساعتين.
تحسس جيوبه قبل أن يفتح عينيه جيدا، داعب القداحة ومفاتيح شقته المتعذر ولوجها، ترنم قدام المغسلة معجبا باستدامة الصابون، ثم ارتدى القبعة الجلدية التي تكفي لتمييزه عن كل المواطنين الذين ينهضون في وقت مبكر، ولكنهم لا يقدرون على تقليد كيفية ارتداء القبعة على جذر الشعر الرمادي، هي التي يشهر بها ثراءه في القرية التي لا تزال نائمة، ما عدا بعض رؤساء العمال، من نوع السيد إرنست الذي امتد شبحه نحو المحجر حيث ينتظره العمال في الغبش وهم ينظفون أدواتهم. في حين ابتدأت حافلة المقاول تتلألأ أضواء... غدا كل من المقاول ورئيس الفريق يحترزان من بعضهما أكثر من أي وقت مضى، مذ أصبحت سوزي بالغا. كل منهما يتحدى الآخر، وكلاهما يقفز من السرير في الساعة ذاتها ويلعب بالقبعة عشية المصاهرة الحتمية التي لا تتطلب سوى حركة واحدة: إن طلب الزواج الذي سيقدم عليه السيد ريكارد في آخر لحظة، وبالنظر إلى مكانته وسمعته والقبعة ذات النوعية الرديئة، لن يزيده سوى انحناء أمام كبرياء السيد إرنست وعجرفة سوزي المعتادة على تنهدات العمال اليدويين، ولن يتحقق له ذلك دون منافسة الأرمل الملتبس، الشيخ المهووس الذي ما انفك رئيس الفريق يلعن نجاحه الغريب، في الوقت الذي يستعد لتقديم ابنته قربانا له. والحق أن السيد ريكارد لم يفكر في المضاربة بهيبته كمالك متهرب، صموت، جشع ومضحك ليست له أية صفة من صفات رجال الأعمال. إن ثراءه مجرد حادث جنوني، مفعول طاقة يائسة عزلته وجعلته عقيما، هو الذي لا تستطيع عائلته البروتستانتية أن تجد لها مكانا بين الأوروبيين أثناء الذهاب إلى الكنيسة.
وصل ماعون السيد ريكارد إلى القرية في عربة ذات دولابين، وقد رآه أوائل المعمرين ناعسا مثل صقر في قفص يجره بغل أبوي غريب يكون قد نهب أو انتزع من صاحبه وبيع بثمن بخس من جندي عابر سبيل. ماتت الأم أثناء الوضع بين مركزين للمستعمر، ولم يتأخر الأب العاثر الحظ عن الالتحاق بها.
ورث السيد ريكارد، المنهك بالأشغال، الذي لا يزال أمرد، ما يشبه العقوبة: نصف قرن من الاستعباد خصه به المرحوم والده الذي وقع في غابة الأشغال الشاقة، ولم يجد الخلف خيارا آخر سوى هذا المستقبل ذاته من العناء والقلق. وإذ لم يكن له لا سيولة مالية، ولا أرض بور ولا مبقلة، ولا الأحصنة الستة ولا حقل الكروم، ولا الأرباح المحصل عليها من عربة الأحصنة الأولى التي سيقودها السيد ريكارد إلى المدينة كل أسبوع لضمان البريد، حسب المشروع الأبوي، الذي اتضح أنه كان محقا أكثر منه متعبا. كانت العربة هي التي ستضمن رأس المال فعلا، ولو أنه قاد بعد ثلاثين سنة حافلة رائعة، الشيء النفيس الوحيد الذي لم يوله عناية صارمة، مع أنه يملك (خارج القرية أو مسكنه، المستودع، الورشة، الإسطبل، الملبنة وملحقات تكون ما يشبه مركزا متقدما على حافتي الطريق) مزرعة مزدهرة، لكنها معزولة بحيث لا يعرف موضعها بدقة سوى قلة من الناس- ومع أنه يملك كل شيء، دون أن يكون له شريك يقاسمه، فإن السيد ريكارد ثابر على عمالية غريبة وبدائية اتخذها معتقدا. وبقيت بذل مواسم الحصاد الاستثنائية في استعداد، مهملة، ماعدا في مناسبات نادرة، كالحج إلى فرنسا أو سويسرا أو بلجيكا- لا أحد يعلم. المرأة التي استقبل فيما مضى، عن طريق وكالة متخصصة في الزواج (الزوجة التي لم تعرف كيف تسير الملبنة بشكل مطابق لنص الإعلان) أغمي عليها مثل حلم عظيم، دون طلاق، ودون عربة موتى، حتى ليظن أن السيد ريكارد طور وعيه الذاتي، إلى درجة إنجاب ولد وحيد اختفى ما بين الحربين وبدا أنه نسي ذكراه. ولأنه كان من النوع الذي لا يسأل، عاملا مقتدرا ونموذجا للنضال، كان يدافع بشراسة عن راتبه الخاص، عن راحته الخاصة، غير قابل للمعاشرة، ومبكرا مثل رئيس حكومة أو محكوم عليه بالأشغال الشاقة، أو مثل كاهن.
تفحص السيد ريكارد ماعونه بعد أن ابتلع قدحا من القهوة بالحليب، في الوقت الذي كانت الخادمة تحضر أمام عنايته شطيرة رشها بنبيذ كاسد لحظة خروجه من المعصرة، من يد المزارع نفسه الذي كان حطابا مع والد المقاول في زمان طنبر البؤس. لم تكن الساعة السادسة قد هلت عندما جلس إلى الطاولة في المطبخ قدام لتر الروم الذي لا يعرف أي كان تذوقه، ما عداه، ولو في عيد ميلاد المسيح. لم يدخل رب البيت من المدينة في تلك الأيام، بات مع الحافلة وأغلق مرأبه بعد إغفاءة. وقد شوهد في نهاية النهار حليق الذقن لتوَه، مرتديا سروال حماية وقميصا نظيفين. كان متكئا في حانة يلعب الورق، مسألة التهيج قليلا بجرعات شراب الأنيزون المضاعفة ثلاث مرات، تلك التي كان يشربها معتقة. كشف السكر عن الشيخ السعيد الذي كان بالإمكان أن يكونه لو لم يرث عن عربة وعن أب بروتستانتي، لأن الصوت المرتفع للسيد ريكارد جبل للفرح والجلبة، كما أن يديه جبلتا للتربيت على الظهور، وجسده الضليع للحرب التي يخرج منها سالما منتصرا أمام أشخاص باهتين مهزومين، غير قادرين على المطالبة بالجولة الأخيرة التي يترقب أن يهبها في حالة إهانة أو تحد، أو في حالة مقابلة سكير نخبة يستحق مواجهة لإنهاء الليلة... ولكن الليالي الأخرى كانت تنتهي في المطبخ مع الذباب نصف اليقظ. وإذ انتعش من غبطة الليل في السادسة، خبأ السيد ريكارد زجاجة الروم وسمع الخادمة تضلع. تظاهر وقتئذ بالابتعاد ثم استدار.
- أريني فستانك.
ضغط على جيدها.
- هل سرقت القهوة؟
تخبطت كدجاجة محاصرة بالخزانة. "سأعضه. لنفترض أني عضضته."
ذهبت الخادمة حاملة دلو الغسيل، وأبصرت قرب المغسل مراد وأمزيان وعمالا آخرين. حياها مراد واستمر التحاور. كانت تستمع إليه. يبدو أن العمال على دراية.
إنها تستمع.
كفوا عن الكلام. غسلوا وجوههم الواحد تلو الآخر، معتمين ومتعبين سلفا، ثم سلكوا طريق الورشة.