كتاب " البلاغة والخطاب " ، تأليف د. محمد مشبال ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب البلاغة والخطاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

البلاغة والخطاب
2- بلاغة القوة وقوة البلاغة، في مرصد أبي حيان
بين عصر الاستكشاف الجمالي والانـزياح النحوي (من الجاهلية إلى أوائل القرن الثالث الهجري تقريبا) وعصر السؤال المركزي: ما البلاغة؟ أي ما سرها، أو أسرارها؟ (القرن الخامس مركزا) تدخَّل عاملان جديدان ساهما في الانتقال من الشفوية إلى الكتابية، هما عنصر المثاقفة وهيكلة الدولة وتعقد بنيتها المدنية. هذا هو عصر أبـي حيان التوحيدي، (القرن الرابع الهجري)، وهو نفسه عصر أبـي سليمان المنطقي، وعصر عميدي النثر العربـي أبـي الفضل ابن العميد[17]والصاحب بنعباد.
رحلتُنا هذه المرة ليست مع صاحب البديع عبد الله ابن المعتز ومن سار على دربه من البديعيين، ولا من استثمر سجلات "صوره" من الإعجازيين، ولا مع صاحب البيان، أبـي عمرو الجاحظ، ومن حَوَّلَ مجراه من البيان إلى نظرية المعرفة (ابن وهب)، أو فكك نسَقَه وحوَّله إلى قِطع غيار (جمهور البلاغيين والنقاد)[18]، ولا مع صاحبِ الأسرار والدلائل وقُرائه (السكاكي وشراحه) المعجبين بمنحاه النحوي الدلالي، أو معارضيه (ابن سنان) الذين اختاروا نموذجا صوتيا، وليست مع حازم وبلاغته المعضودة بالمنطق المستثمر لقراءة الفلاسفة العرب للتراث الأرسطي. هذه الرحلات رَحَلْناها ووصفناها بتركيز أحيانا وتفصيل أحيانا أخرى، حسب الحاجة، في كتاب: البلاغة العربية أصولُها وامتداداتها، وفي الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية. رحلتنا هذه المرة مشوقة لأنها في أرض بِكْر، رحلتنا مع كاتب متفلسف، وشاهد متيقظ على عصر لم يكن راضيا عنه، مع كاتب متمرد، خطب وُدَّ عصره بالعقل والمعرفة والكرامة فانتهى بإحراق كتبه. رحلتنا مع صاحب مثالب الوزيرين، مع صاحب البصائر والذخائر والهوامل والشوامل، مع صاحب المقابسات والإمتاع والمؤانسة، رحلتنا مع أبـي حيان التوحيدي وشيخه أبـي سليمان المنطقي. لم يحضر قطُّ أبو حيان في المشاريع والمنجزات والمفاهيم التي عرضْناها في الكتب الأكاديمية، وما كان له أن يحضر في ذلك الجو الأكاديمي الجاف، لأنه ليس أكاديميا، وليس منظرا مؤثرا في تاريخ البلاغة، بل هو شاهدٌ على انتشار مَملكتها[19]، وبلوغها مدى سطوتها وتوسعها، حين كانت في قمة ازدهارها، وهو مَعنيُّ بالدفاع عنها والحِرص على حدودها وتخومها، لأن عيشه ووجاهته منها وإليها. رَصدَ أبُو حيان قوةَ البلاغة وانتشارَها من خارج صراعات مُنظريها الذين يحاول كل منهم أن يحصرها في مجال اهتمامه واشتغاله أو رؤيته الفلسفية، رصدها أبو حيان من زاوية حضورها وانتشارها وفعاليتها في الحياة. قد يتبادر إلى الذهن أنه دافع عن البلاغة وسعى لتوسيع خارطتها وإعلاء قيمتها لكونها مملكتَه التي يقارعُ بها المنافسين الذي يسعون لجعل الحظوة في غيرها. ربما يكون هذا الاعتبارُ حاضرا ومحمسا للانخراط في نقاش كان قائما، لم يفتعله افتعالا. هذا ما سيتأكد منه القارئ بالرجوع إلى كتاب صبح الأعشى، يقول القلقشندي متحدثا عن قلعتين تتصارعان على النفوذ:
"على أن الكتابة وإن كثرت أقسامُها وتعددت أنواعها، لا تخرج عن أصلين هما: كتابة الإنشاء، وكتابة الأموال وما في معناهما على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى"[20].
ثم يرسم حدود كل منهما:
""فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني: من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهدن والأمانات والأيمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها.
وأما كتابة الأموال فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل المال وصرفه وما يجري مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السلطانية، وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه، وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلك، وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما ينجر القول فيه إلى صنعة الحساب.
"ولا شك أن لكل من النوعين قدراً عظيماً وخطراً جسيماً، إلا أن أهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يرجحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على سائر الكتابات ويقدمونها؛ ويحتجون لذلك بأمور"[21].
"الأمور" التي يحتجون بها هي المزايا والمطالب البلاغية التي سيحدثنا عنها أبو حيان.
أما المناسبة المباشرة لمرافعة أبـي حيان فمن الراجح أن تكون واقعةً حقيقية ما دام هو يصف ما جرى في مجلس من مجالس مسامراته للوزير ابن العارض في حياة الأخير، وفي محضر آخرين. فقد جعلَ فرصتَه لذلك ادعاءَ أحد الكتاب المعروفين (ابنُ عُبيد) أن أرضَها ضيقة ونفعَها قليل، وطبيعتها رخوة...الخ. وحتى لو لم يوجد هذا الطاعن فقد كان يجب أن يخلقه أبو حيان لكي يعرض على لسانه التهم الموجهة للبلاغة في عصره من طائفة التقناويين الذين كانوا، ولا يزالون، لا يرون طائلا من العلوم الإنسانية جملة.
2-1- دور البلاغة في الحياة
2-1-1- لائحة الاتهام
قال أبو حيان مسترجعا ما جرى في الليلة السابعة:
"ولما عدتُ إليه [أي إلى الوزير صاحب المجلس] في مجلس آخر، قال: سمعتُ صُياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم كنتما؟"
"قلتُ: كان يذكر أن كتابة الحساب أنفعُ وأفضلُ وأعْلقُ بالـمُلك، والسلطانُ إليه أحوجُ، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جد، والأخرى هزل؛ ألا ترى أن التشادق والتَّفيهُق والكذبَ والخداعَ فيها أكثرُ؛ وليس كذلك الحسابُ والتحصيلُ والاستدراكُ والتفصيلُ.
"قال [ابن عبيد]: وبعد هذا فتلك صناعةٌ معروفة بالمبدأ، موصولةٌ بالغاية، حاضرة الجدوى، سريعة المنفعة؛ والبلاغة زخرفة وحيلة، وهي شبيهة بالسراب، كما أن الأخرى شبيهة بالماء.
قال: ومن خساسة البلاغة أن أصحابها يُسترقعون ويُستحمقون[22]؛ وكان الكُتاب قديماً في دُور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون: اللهم إنا نعوذُ بك من رَقاعة المنشئين، وحماقة المعلمين، وركاكة النحويين. والمنشىءُ والمعلـمُّ والنحوي إخوة وإن كانوا لِعَلاَّتٍ؛ والآفة تشملُهم، والعادةُ تجمعُهم، والنقصُ يغمُرهم، وإن اختلفتْ منازلُهم، وتباينتْ أحوالُهم.
... وبعدُ، فمصالحُ أحوال العامة والخاصة مُعلقة بالحساب؛ على هذه الجديلة والوتيرة يجري الصغارُ والكبارُ والعِليةُ والسفلة، وما زال أهل الحزم والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلم الحساب، ويقولون لهم: هو سلة الخبز. وهذا كلام مستفيض".
"ومن عبَّر عما في نفسه بلفظٍ مَلحونٍ، أو محرف، أو موضوعٍ غيرَ موضعه، وأفهم غيره، وبلغ به إرادته، وأبلغ غيره، فقد كفى؛ والزائد على الكفاية فضلٌ، والفضلُ يُستغنى عنه كثيراً، والأصلُ يُفتقرُ إليه شديداً، ..."[23]. لمفهمة مآخذ ابن عبيد، وتسهيلا لفهم ردود أبـي حيان عليها نعيدها إلى مفاهيم عامة دالة:
المجال
القيمة
الصفة
الصورة
الحساب
متسع
ضرورة
الصلابة
الماء
البلاغة
ضيق
فضلة
الرخاوة
السراب
هذه أهمُّ التُهم الموجهة للبلاغة في سياق المقابلة بينها وبين التقنوية التي انتدبَتْ الحساب لتمثيلها[24]. وقد ردها أبو حيان بطريقة تبينُ ضيقَ أُفْق التقناوي الذي يرى العالم من ثقب باب حرفته. وسنبلور أجوبته حول نقط تلخصها وتبنيها:
2-1-2- مرافعة أبي حيان
استبعدنا ردوده على بعض المآخذ الجزئية غير المنتجة بلاغيا، من قبيل اتهام البلاغيين والمعلمين والنحاة تهما مناطها بجهات أخرى غير البلاغة.
2-1-2-1- البلاغة باتساع الإمبراطورية.
بدأ أبو حيان بِردِّ تُهمة ضيْق مجال البلاغة ليبين أن هذه التهمة تنم عن عدم استيعاب المنتقد لمفهوم البلاغة. فقد أخطأ ابنُ عبيد حين حصر البلاغة في ديوان الرسائل، ولو كانت محصورة فيه فعلا لكان صادقا، كما قال أبو حيان. ونظرا لأن جوابَ أبـي حيان المتعلق باتساع المجال هو الذي يخدم غرضنا في البحث عن بلاغة
عامة، ونظرا لحداثة جوابه فإننا سنورده كاملا. قال:
"قلتُ: أيها الرجلُ، قولُك هذا كان يُسلَّمُ لو كان الإنشاءُ والتحريرُ والبلاغةُ بائنةً مِنْ صناعةِ الحسابِ والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة[25]. فأما وهي متصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها، فكيف يَطَّرِدُ حكمُك، وتُسلَّم دعواك؟"
ثم قرعه بسؤال إنكاري: "ألا تعلـمُ أنَّ أعمالَ الدواوين التي ينفرد أصحابُها فيها بعمل الحساب فقيرةٌ إلى إنشاءِ الكُتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه[26]؛ بل لا سبيل لهم إلى العمل إلا بعد تَقدِمة هذه الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح، وذلك يوجدُ من الكاتب الـمُنشىء[27]الذي عِبْتَهُ وعَضَضْتَه، وهذه الدواوين معروفة، والأعمال فيها موصوفة؛ وأنا أحصيها لك كي تعلم أنك غالطٌ وعن الصواب فيها منحرف".
وذكر له ثمانية دواوين[28]، كما ذكر ما لكل ديوان من "توابع"، ومنها: "باب العين والمؤامرات، وباب النوادر والتواريخ، وإدارة الكتب ومجالس الديوان".
ومازال أبو حيان يرصد حضور البلاغة في كل الجهات (الدواوين) والزوايا (أبوابها) حتى حضرت في ذهنه صورة الشمس والقمر اللذين يمتد نورهما إلى كل الجهات والزوايا، فبدا له ابنُ عبيد، وهو يعيب البلاغة بالزخرف، أشبهَ بِمَن "عاب القمرَ بالكَلَف، والشمسَ بالكُسوف".
بل إنه لَـ"يلزم كاتبَ الحسابِ [نفسَه] أن يعرف وُجوهَ الأموال، حتى إذا جباها وحصلها عَمِل الحسابُ أعمالَه فيها، فلا يمكنه أن يَجبـي إلا بالكتب البليغة، والحُجج اللازمة، واللطائف المستعملة...إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم المعتادة والعادات الجارية، كعهد ينشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب، وكتاب في العمارة وإعادة ما نقص منها، وفي حزر الغلة والدِّياس". (نفسه).
2-1-2-2- البلاغة ليست فضلة
قال أبو حيان:
"فإن قلتَ: "هذا كله مُستغنىً عنه" كابرت وبَهَتَّ، لأن مَدارَ المال ودُرُورَهُ، وزيادتَه ووُفورَهُ على هذه الدواوين التي إما أن يكون حظ البلاغة فيها أكثر، وإما أن يكون أثر الحساب فيها أظهر، وإما أن يتكافآ. فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملاً، ولا لاسمه مستحقاً، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال، ويجمع إليها أصولاً من الفقه مخلوطة بفروعها، وآيات من القرآن مضمومةً إلى سعته فيها، وأخباراً كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عُدة عند الحاجة إليها، مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة؛ والفقر البديعة؛ والتجارب المعهودة، والمجالس المشهودة، مع خط كَتِبْر مَسبوك، ولفظٍ كوشيٍ محوك؛ ولهذا عَزَّ الكاملُ في هذه الصناعة، حتى قال أصحابُنا: ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفر بنيحيى... أفلا ترى كيف غَرِقَ الحسابُ في غِمار هذه الأبواب؟". (نفسه).
يبدو وكأن أبا حيان يتحدث عن إمبراطورية الإعلام والتواصل في العصر الحديث، في هيمنتها على كل المجالات، وتسخيرها لكل الكفاءات والإمكانيات المعرفية والفنية، حيث يؤدي امتلاك الإنسان بالبلاغة إلى امتلاك السلطة والثروة، والعكس بالعكس. والبليغ في هذا المجال ليس مجرد مزخرف للقول، بل هو صاحب رصيد معرفي يستوعب الأدوات اللغوية والشرعية والثقافية بمفهومها الواسع. هذا هو المفهوم الذي غاب عن التقناوي القديم ويغيب حاليا عن بعض التقناويين المحدثين، وبعض منظري النقد الثقافي خاصة.
ومن البين أن التسليم بالردين السابقين (1 و2) كان كافيا لإبطال ما تبقى من حجج ابن عبيد، إذ ظهر من رد أبـي حيان أن الرجل تحدث في موضوع لم يكن يعلم طبيعته وحدوده، ومعنى ذلك أن أبا حيان سلك طريق سحب البساط. ومع ذلك فضل الاستمرار في تفنيد دعاوى ابن عبيد. لقد أعاد أبو حيان هنا تعريف البلاغة من خلال وظيفتها في الحياة.