أنت هنا

قراءة كتاب البلاغة والخطاب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البلاغة والخطاب

البلاغة والخطاب

كتاب " البلاغة والخطاب " ، تأليف د. محمد مشبال ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 9

تأملات في محاورتي أفلاطون جُورْجْيَاسْ وفِيدْرْ

محمد الولي

تعتبر محاورتا أفلاطون، جُورْجْيَاسْ[57]وفِيدْرْ[58]، من المصادر المركزية، حتى لا نقول المصدر المركزي الأول، في تاريخ البلاغة أو الخطابة في الغرب. وإذا كان أرسطو قد حاز عصا السبق في حلَبة اهتمام المتأخرين، فإن قراءة المحاورتين السابقتين تبين أن الكثير من الأفكار المركزية في خطابته مبثوثة في تلابيب هاتين المحاورتين الخالدتين. هذا التحويل المؤقت للبوصلة قد يساعدنا على ضبط أدق للمحطات الأساسية الفاصلة في تاريخ هذا العلم.

الخطابة عند اليونان، شأنها شأن الفلسفة، وليدة النظام الديموقراطي الأثيني. حيث كان كلُّ شيء، خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، يتقرر بإرادة المواطنين الأحرار الذين كانوا يمارسون هذه الحرية في المؤسسات الديموقراطية الثلاث، أي التجمع الشعبـي الذي يجتمع فيها كلُّ المواطنين لاتخاذ كل القرارات التي تهم المواطنين، والمحكمة الإيلِّيَّة التي كانت تعرض عليها أهم الجرائم التي تتعلق بمحاسبة الفاسدين من أهل السلطة أو الاستراتيجِّيين، والمجلس الحاكم، أو مجلس الخمسمائة الذي كانت تسند إليه أمور تنفيذ الاختيارات التي تقررت في التجمع الشعبـي. إن هذا يعني أن الممارسة السياسية مقصورة على المواطنين الأحرار وممنوعة عن العبيد، الذين كانوا يشكلون حوالي ثلاثة أرباع السكان، كما منعت عن الأجانب والنساء، وعمَّن لم يبلغوا سن الرشد، أي دون سن الثامنة عشْرة، وعمَّن كانوا يعتبرون لقطاء.

فإذا كانت كل التدابير السياسية وليدة التداول أو التشاور الذي يساهم فيه كل المواطنين الأحرار، فإن هؤلاء كانوا في قبضة من يمتلكون المهارة الخطابية، ففي النهاية تُتَّخذ القرارات بعد الاستماع إلى من يخطبون دفاعاً عن هذا الاختيار أو ذاك. لهذا تحولت الخطابة إلى بضاعة، بل إلى برنامج تعليمي باهظ الثمن لمن يريد تعلمها. يقول هُنْرِي- إِيرِينِي مَارُو:

"إننا نشهد، بعد أزمة النظام الطُّغياني في القرن السادس قبل الميلاد، أغلب الحواضر اليونانية، وخاصة الحاضرة الديموقراطية أثينا، تعيش حالة من النشاط السياسي المكثف: لقد أصبحت ممارسة السلطة، وإدارة شؤون الحاضرة الاهتمام الأساسي، والنشاط الأكثر نبلاً وتشريفاً عند الإنسان اليوناني، والمسعى الأسمى أمام طموحه. يتعلق الأمر بالنسبة إليه باكتساب هذا الأمر والتفوق والفعالية. إلا أن هذا لم يكن مطلوباً بواسطة الرياضة وحياة الأناقة [...] بل كان مطلوباً بواسطة النشاط السياسي. لقد وضع السوفسطائيون برامجهم التعليمية في خدمة هذا النموذج الجديد للفضيلة السياسية"[59].

إلا أن هذا التسليط للضوء على الدور النافذ لمعلِّمي الخطابة، أي السفسطائيِّين، لا ينبغي أن يغيِّبَ عن أذهاننا المقاومة الشديدة التي كانت تنصبها في وجههم الفلسفة. يقول لَاوسْبِيرغ:

"إن البرنامج التربوي للخطابة وتطلعَها إلى أن تكون أيضاً صناعةً نظريةً ذاتَ قيمة مستقلة، قد كانا السبب في تعرُّضِ الخطابة لمقاومة الفلسفة. ففي الوقت الذي يعتَبِر فيه الفلاسفةُ، اقتداءاً بأفلاطون، الخطابةَ صناعةً غير جديرة بالاهتمام، بل الأكثر من ذلك، لقد اعتبروها مجردَ عادةٍ [...]، فإن الخطباء المترسِّمِين لخطوات إيزُوقْراطْ لا ينسبون إلى الفلسفة إلا دوراً تربوياً في تكوين الخطيب الكامل [...] الذي ينبغي له، بعد ذلك، أن يعالج بدقةٍ، واعتماداً على مناهج خاصة، المسائل الجدلية للفلسفة [...].

بل إن الخطباء يصِلون إلى حد اتهام سقراط المناهض للخطابة بكونه قد تعمَّدَ تقوِيض الوحدة القديمة بين الخطابة والفلسفة"[60].

هذا العداء للخطابة ناشئٌ عن تخوف الفلاسفة من استفحال تأثيرها في التدبير السياسي، خاصةً وأن المؤسسات السياسية مُشْرعَةُ الأبواب أمام مشاركة العامة، ولا شيء يحمي هذه المؤسسات من الآثار الهدامة لمشاركةِ العامة والإمساك بمقاليد الحكم. فحينما يكون التباري، بل التسابق، مفتوحاً بين الفلاسفة والخطباء، لأجل امتلاك مقاليد السلطة، فلا شك أن الخطباء يكونون مرشحين، بسبب نوازعهم الشعبية، بل الشعبوية، ومجاراتهم لأهواء حشود الدهماء، أكثر من الفلاسفة للفوز بمواقع النفوذ السياسي، خاصة وأن الفلسفة، هي من حيث التعريف خطابُ خاصةِ الخاصةِ، خطابٌ ينفر نفوراً جذرياً من أهواء ومعتقدات العوام.

أعتقد أن هذا هو موضوع محاورتي جُورْجْيَاسْ وفِيدْرْ لأفلاطون. فلنبدأ بالأولى، التي اشتهرت بكونها مخصصة للخطابة، ولهذا فقد تم تفريع عنوانها جُورْجْيَاسْ بـ"حول الخطابة". الخطابة هي الموضوع المركزي، لا الوحيد في هذه المحاورة الخالدة. الخطابة هنا معروضة على نقد لاذِعٍ، إلا أن السياسة تنال نصيبها من هذا النقد، وربما كانت هي المستهدف الرئيسي، لأنها هي المستفيدة من الخطابة وبها تؤمِّن دوامها ونفوذها. هذا النقد للخطابة يجد تبريره في الحرج الذي تسببه للفلسفة، التي هي موضوع دفاع سقراط في هذه المحاورة. هذان، إذن، هما القطبان الرئيسيَّان لهذه المحاورة. إلا أن هذين الطرفين المتنازعين يتوفران كل واحدٍ على حدةٍ على من يتولى الدفاع أو الاتهام، أو هما معاً. لقد تكلف سقراط بملف الدفاع عن الفلسفة واتهام الخطابة، في مواجهة درامية أمام بقية المحاورين وهم جُورْجْيَاسْ وبُولُوسْ وكَالِيكْلِيسْ، الذين تكلفوا بالدفاع عن الخطابة. يمثل سقراط طرفاً في هذا النـزاع، ويمثل الآخرون الطرف الثاني. وبهذا فقد نازل سقراط بشكل متناوب كلّاً من جُورْجْيَاسْ فبُولُوسْ ثم كَالِيكْلِيسْ. يتصدر هذه الجوْلات الثلاث مدخلٌ يتمُّ فيه تقديم المساهمِين. وتنتهي المحاورة بحديث سقراط مع نفسه، وتختم بسرد أسطورة يرويها هو نفسه، وهي تتعلق بما يؤول إليه، المدافعون عن العدل، والمقترفون للظلم في الدار الفانية.

الصفحات