رواية " لن تجن وحيداً هذا اليوم " ، تأليف أم الزين بن شيخة المسكيني ، والتي صدرت عن
أنت هنا
قراءة كتاب لن تجن وحيداً هذا اليوم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كانت تقبض على يده بقوة أسطورية.. وكان يجهد نفسه للتملص منها.. كانت في دوار متواصل.. شدّدت قبضتها على مسام جلده خوفا من السقوط على الدرجة الأخيرة من السلم.. شعرت انّها معلقة بين السلم والجدار.. وأنّه عليها ان تحسم مكان سقوطها.. على صدر لوحتها التي تحدق بها منذ خمسين عاما.. أم على صدره الذي لم تعد تراه.. وكان عليها أن تتمسّك بيده أكثر حتى لا تتهم بالجنون العمومي..
لا شيء تبقّى لها في هذا الدوار المتواصل غير مهارة التحديق بالصورة على الجدار.. ها هو يبتسم ثانية.. تُرى لِمن كانت تلك الابتسامة؟ لتلك الفتاة العابرة التي ناداها بنفسه وسلمها يومها منذ خمسين عام.. آلة التصوير لالتقاط صورته العابرة مع حبيبته الحمقاء؟ أم كان يبتسم للحظة عابرة اخترقت شفتيه يومها اعتباطا وهو في عنفوان شبابه؟ أم كان يبتسم للحظة حبّ وعدته بها يومها حين حلّ ذاك المساء؟ أم تُراه كان يبتسم لها الآن وهي في الدرجة الأخيرة من السلم.. يناديها ثانية إلى عالم مضى كأن لم يكن أبدا.. كيف ستهربين ثانية من ذاك القدر البعيد يانهدُ؟ حذار من خطوط الهروب.. قد لا تؤدي.. وقد تدفع بك رأسا إلى الهاوية الأولى.. وقد لا تلاقين على خطّ تلك الابتسامة غير صاحبها الذي منه تهربين.. كيف ستنجين من الغرق ثانية في رواية من البراكين.. ؟ احزمي أمرك أيتها المرأة.. لا تهبطي السلّم ثانية.. قد لا تعثرين على غير الجثامين... كان عليها أن تتقن السقوط إلى الأسفل قدر المستطاع.. فالأسفل متخم بالحكايا والثنايا.. كانت تعشق الترحال في الداخل.. كلّما أحسّت بالضجر من خارج لا شيء فيه غير الضجيج وعشّاق الأقنعة..
نادته بصوت حزين من أعماق قلب مترهّل: "غريب".. حبيبـي.. هل مازلت هنا أم غادرت؟ هل هاجرتني ثانية إلى السياسة..
لم يجبها.. وابتسم كعادته.. كان مشغولا بربط خيوط حذائه.. كان شديد العناية بتسويد أحذيته وتلميعها كل يوم.. وخيّم الصمت على اللوحة وعلى الجدار الذي يضاجع تلك اللوحة باستمرار بشهوة محمومة.. وكانت تحقد على هذا الجدار لأن لا أحد يخوّل لجدار راشد مفاخذة لوحة قاصرة.. وألوان بريئة وابتسامة عابرة كانت تخالها رُسمت على شفاهه من أجلها..
وتخيّلت الجدار أنثى.. وجالت بعقلها الممسوس صورة شاذّة لزوجها وهو يضاجع الجدار الذي استحال فجأة إلى صدر أنثى يعبق بنهدين مكتنـزين.. أحسّت بوجع في فيافي شرايينها البعيدة.. ضحكت في قرارة نفسها هازئة من نفسها.. "أتراك مازلت تغارين يانهد حتى وأنت جثمان قديم؟ بأيّ روح ستحبّينه ثانية وأيّ نهد ستهدينهم.. وأنت قد فقدت نهدا ولم يبق لك غير نهد يتيم؟"
شعرت بغصّة دفينة.. لا شيء تذكر.. غير أنّهم اقتلعوا يوما نهدها الأيمن.. واكتفوا بأن قالوا لها: "فعلنا ذلك لانقاذك.. بوسعك أن تعيشي بنهد واحد.. بوسعك أن تتألّمي مثل آلاف النساء اللاتي اغتصبهنّ الطبّ.." بكت ثانية.. بكت وفي دمعتها كل النساء وكل النهود الملقاة ظلما في دهاليز الأمراض الخبيثة... ورغم ذلك أصرّت على أن ترسم لنفسها احساسا جديدا: أنّها موجودة ههنا رغم النهد الواحد.. والزوج الواحد والذكرى الواحدة.. والالاه الواحد.. كانت توحيدية في كلّ شيء.. حتّى في اسمها.. لكنّها متمسّكة اليوم بأن تشعر بأنّها وجود أكثر من اللازم.. تطلب عنفوانا.. تطلب شططا.. هي ذكرى فائضة عن رواية ماضية..
"هيّا.. انـزلي ياأمّي.. أكملي درجات هذا السلّم.. لا تخافي لقد أوشكت على النهاية.. تقدمي بهدوء.. لا تخافي.. ها أنذا أسند ظهرك"
سقطت دمعة كبيرة على رخام السلّم الأخير.. وخطت خطوتها الأخيرة قبل النـزول تماما إلى الطابق السفلي من بيتها.. كان يمسك بها في حنوّ.. وكانت تخنق آخر دموعها في حلقها..
وفي قلبها بعض كلمات تعاودها كلّما توغّلت في عتمة هذا السلّم الطويل:
ستسقطين.. معلّقة أنتِ بين الطفولة والموت الرحيم..
وتتأرجحين. في اليوم ألف مرّة خلف الضباب خلف لاهوت السراب خلف صنم.. صنعناه بأيدينا من طين..
أنتِ.. ياألف روح من المرمر الحزين.. وتتأرجحين..
ملبّدة أياديك بجرح الثرى.. بالعدم قبل السقوط في هذا الزمن الثقيل.. هل أنتِ وعدُ للقادمين؟أم أنتِ لعنة من الراحلين
بل أنتِ حبل غسيل تمزّق بين ضفّتين على نهر الجحيم...
.....................
أجلسها بلطف على الصالون.. تحديدا قبالة تلك اللوحة.. كان يحلو لها أن تحدق بابتسامته ردها من الوقت.. هي الآن في سنّ التقاعد.. وهي بجسدها المتقاعد ذاك لم تعد تحذق غير مهارة التحديق..
بادرها بالكلام مشفقا على ما آلت اليها من الشرود الدائم: "اطمئني ياأمّي واستريحي بقدر الامكان.. أنت هنا في أمان.. لا أحد سيطاردك.. ها أنت أخيرا في بيتك.. بعد رحلة معقّدة بين أماكن لا أحد يتمنى الاقامة فيها.."
حدّقت فيه بعينين متعبتين من ليل طويل وأرق ثقيل.. قبّلها على جبينها وجلس إلى جانبها..
سألته: "من أنت من أبنائي؟ لقد ضاعت عنّي كل أسمائهم"
ضمّها إلى صدره وقال مواسيا: "لا حرج عليك ياأمّي.. أنا أصغر أبنائك.. أنا وليد"
...
ها هي تعود إلى الهذيان مرّة أخرى..
سيسرقون منك المدى ياروحا قديمة.. وستعودين ثانية تحملين في عينيك المدى.. وسيسرقون منك الصدى... لكنّك ستعودين بمسوخ وطوابير.. وفي حروفك حشد عظيم.. لا تغلقي الباب في وجه أيّ كان من الحاضرين ولا من الراحلين.. هذا المكان هو وطن للجميع.. مهما كان حزبه أو شكله أو وهمه أو جرحه.. أو ربّه أو موته..
كانت تهذي بكلمات أخرى لا أحد من الغائبين استطاع أن يلاحق سرعة هذيانها الدائم.. لكنّ بعض كلماتها سالت على أرضية السلّم.. فكانت بروقا وشظايا..
وداهمتها اللوحة من جديد.. كانت تراه جالسا إلى جانبها مصرّا على مسكها من يدها.. لماذا لا زال يتردد عليها وكأنه يتعمّد ازعاجها وبلبلة حياتها الجديدة...
تجرّأت على فتح الحديث معه "ماذا تريد منّي؟"
أجاب ساخرا: "أريد فقط أن أبقى بجانبك وأن ألمس بعضا من أوجاعك؟"
ردّت عليه في استغراب: "لكنّك هجرتني منذ زمن طويل.. ما الذي أعادك إلى الحياة؟"
أجابها: "موتتي السابقة لم تعجبني.. فأنا لم أكن أحبّذ الموت في حادث مرور أحمق وفي سيارة مجنونة.. عدت كي أموت ثانية موتة تليق بمكانتي في الدنيا كم يحلو لي حبيبتي أن أموت بين يديك"....