أنت هنا

قراءة كتاب لن تجن وحيداً هذا اليوم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
لن تجن وحيداً هذا اليوم

لن تجن وحيداً هذا اليوم

رواية " لن تجن وحيداً هذا اليوم " ، تأليف أم الزين بن شيخة المسكيني ، والتي صدرت عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 4

على وجهها غبار ماض كئيب.. حفنة واحدة من دائرة الهدوء كانت كافية لتحلم ثانية.. في نسوغ أعصابها كل أوجاع المستقبل.. لكنّ بعضهم لم يكن يرغب بأيّ مستقبل.. وآخرون كانوا يتحسّرون لأنّهم لم يكونوا مهيّئين كفاية للعيش في الحاضر المكتظّ بأطماعهم.. ورهط آخر اختار التمسّك ببعض ثوابت الأمّة خوفا من المغامرة في طريق قد لا تؤدّي.. ورهط كتوم لا أحد يعلم هل يخيفه البحر الزاحف والأخطبوط أم السقوط في زمان أفظع من هذا المكان الملبّد بالطاغوت.

كلّ سكّان المدينة يتألّمون من الموت ويخافون أن يأتي اليهم قبل الأوان.. أمّا هي فقد كانت دوما تتألّم من الحياة.. من طول الحياة.. هم يعانون من كثرة النسيان.. هي تعاني من ثقل الذاكرة.. كان عليها كل صباح أن تدوّن كل الأحداث التي ستقع هذا اليوم.. وأن تنغمس في تفاصيل من مرّ ومن لم يمرّ.. ومن مات سهوا قبل الوصول إلى أوجاعه القادمة.. ومن قرّر انتعال صمته على جرعات صغيرة..

انّها تتمنى أن تكون مثلهم.. نسخة حيّة خير من أصل ميّت.. يحملون أقدارهم دون أن يدركوا إلى أين هم ذاهبون.. لكنّهم لا يأبهون.. هي تملك ناصية المستقبل بين رموشها.. أمّا هم فلا يعرفونها أصلا لأنّها لم تستطع إلى الآن أن تعبر من أحداقهم المغمورة بضباب السياسات الماكرة. لذلك فهم لم يحلموا يوما بأن يشبهوها حتى مجرّد الشبه.. التشابه أمر مقرف أحيانا.. بل هم لم يحلموا يوما بأيّ شيء خارج أنفسهم.. أو خارج ما يتوهّمونه أنفسهم.. ان كان لديهم أنفسٌ.. انّهم يعيشون فقط.. وذلك كان يكفي كي ترسم هي برواحهم ومجيئهم، بنومهم الملبّد بالغيوم، بغفلتهم عن جراحهم، برائحة العرق اليومية للكادحين.. بأقداهم الفارغة من خمرة مالحة.. بأحذيتهم القديمة المثقلة بغبار حكومات ظالمة.. كانت تطلب كلّ ما لديهم.. فقرهم وعشقهم ووهمهم وجوعهم.. كي ترسم عالما من الحروف الهادئة.. ومن العواصف النائمة..

وتنتصب القضبان في كل أركان المدينة.. سجون شاهقة حيثما ولّيت وجهك.. وفي الداخل أرواح تاهت عن أصحابها.. عمّت الفوضى.. وكثر السطو على أجساد الآخرين.. واستعصىت اعادة الأمن إلى قلوب تعتعها البؤس والطمع في أرواح لا تلائمها..

بعضهم اعتصم أمام مقرّ الحكومة احتجاجا على روحه التي سُرقت منه وهو بصدد احتساء قهوته الصباحية.. وبعضهم يصرخ ويولول بكلام لا أحد يفقه منه أيّ شيء.. وآخرون اكتفوا بالألم خارج أجسادهم.. وآخرون استسلموا للهذيان عمدا كي لا تقع محاسبتهم على ما اقترفوه من اعتداء على الأمن العام لسكّان المدينة.. وآخرون لم تتمكّن من احتضانهم في المدى البصري الذي بحوزة عينين من بلّور روماني..

وقرطاج ترمقهم من بعيد كأمّ ثكلى.. يؤكل أطفالها بين عينيها جهرا.. يؤكلون من الكتف الأيسر بكل صفاقة.. يؤكلون على وقع فارسي كما يُؤكلُ الثور الأصفر.. ولا تستطيع قرطاج حتى احتضانهم أو درء الأذى عنهم.. ههنا يقفون منذ سنتين من الزمن.. يصنعون الربيع ساعة.. ويبكون الزهور المجروحة بفؤوس لا تصلي الاّ لأطماعها.. وهي تحاول بمشقّة مملّة اخفاء دموعها السافرة عنهم.. هؤلاء أبناؤها الشرعيون منذ ألف عام.. تجمّعوا على حقل من السنابل الشامخة.. فأنتجوا أغلبية.. أصابتهم عدوى الحرية فلم يتقنوا ادارة مشاعرهم المكبوتة.. يوشكون كل يوم على التحوّل إلى منشّات للذباب... ورغم ذلك لم تشأ قرطاج أن تتدخّل في أرشيفات حكومات الكذب من أجل اعادة الحق لأصحابه.. لقد كانت تدرك جيّدا أنّهم سيتدرّبون طويلا على حريّتهم.. دون أن يجدوا نقطة التوازن المطلوبة بين أوجاعهم السابقة وأحلامهم اللاحقة.. قرطاج فتاة قٌدّت من عبق آلهة المستقبل.. لذلك هي تعلم جيّدا ما الذي سيقع لأبنائها.. وكيف سيتأرجحون طويلا بين حقولهم الحبلى بالسنابل وجوعهم الدائم إلى سماء جديدة.. قرطاج تجرّ المستقبل بين أنامل من الريحان والعنبر.. لا شيء بوسعها أن تمنحهم غير ما يملكون في أوجاعهم من المدى المنثور هباء بين نهود نسائهم المسبية..

بجسد ناصع كالنصل.. وبروح تكعيبية تتقن التحليق في أرواحهم العميقة كلّما استسلموا ليلا للنوم القسري.. كانت تقف كلّ يوم على سور من الزبرجد صمّمه لها حنّبعل كي تكون أكبر من المدينة تحسن الوقوف على طول قامتها المشتهاة.. وتتقن سكنى جسدها الناعم بلا جدوى.. لا أحد منهم كان قادرا على لمسها.. تنتظر يائسة طول الدهر عاشقا شبيها بحنّبعل.. فتبقى كل غروب على عطش.. فضّلت أن تؤجّل حُلمها وأن تؤجّل عشقها وأن تخبّئ جيّدا شهوة البدن.. في مدينتها لا شيء ينبت غير الجوع إلى التعاويذ ودساتير الظلام والبؤس المقوّى بآخرة لا تأتي.. لأنّ أوانها قد فات منذ زمن بعيد.. جاءت إلى هنا على سبيل الخطأ.. قرّرت أن تبقى على سبيل التطفّل البهيج... في مدينتها تنحني الرؤوس للقتلة.. وتتأرجح الطوابير بين الطماطم السريعة الدهس وعيون الجياع الفارغة..

قرّرت أن تؤجّل أحلامها الخاطئة.. تضامنا مع مدينة اخترعتها بأناملها من جلد ثور مقدّس.. يوم كان الثور قادرا على الانتماء إلى ثورته المناسبة.. هي تملك أحلامهم بين يديها لكنّها ممنوعة بقدر محتوم عمره ألف عام من منحهم أيّ شيء قبل أن يصلوا بأنفسهم إلى أقدارهم..

هاهي تستعيد جيّدا بنود ذاك المرسوم الملكي الذي وقّعته بيد فتاة وثنية في معبدها الروماني تحت اشراف مؤقّت للعناية المقدّسة للعظيم حنّبعل: "قرطاج علّيسة روح حنّبعل.. محكوم عليها بأن تبقى ههنا حذو هذا الشعب الكبير ترقبه من بعيد طيلة تاريخه وعلى مدى كلّ المستقبل الذي بحوزتها.. لكن لا حقّ لها في أن تحضن أبناءها حتّى وان أُكلوا على مقربة من عينيها... ولا حقّ لها أن تمنحهم أحلامهم الاّ في حالة وصولهم بأنفسهم اليها.. قرطاج هي المرأة الوحيدة المالكة لمستقبل هذا الشعب لكنّها محرومة من حقّ توجيههم نحو الطريق الصواب حتى وان سقطوا في الهاوية.. قدرها أن تظلّ واقفة تحدّق كل يوم في هذا المدى الذي افتتحته بأيديها علّ مدينتها تلتحق بأحلامها.. حينئذ فقط بوسعها أن تأفل عن سمائهم إلى سماء أخرى.. وعليه فقرطاج محرومة من حقّ النوم في أيّ زمان.. لا ليل لها ولا حياة غير الحركة الدائبة لهذه الجموع السائرة نحو المجهول.."

كانوا يقفون في طوابير.. قيل لهم إنّ هذه هي الطريقة الوحيدة للسفر نحو المستقبل.. وقيل لهم أنّ المستقبل سيأتيهم هذه المرّة من الخلف.. وقيل لهم أيضا أنّهم عاطلون عن العمل ولم يتبقّ لهم غير الوقوف في طابور.. وقيل لهم أيضا أنّهم سيُمسخون بعد عام من أجل المشاركة في تصوير فيلم عالمي حول الربيع العربـي..

الصفحات