كتاب " مدار الكتابة " ، تأليف محمد بن ابراهيم الدبيسي ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب مدار الكتابة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ونجدُ الإشارةَ الواضحة للمكان/العقيق في شعر هذه الفترة لدى الداغستاني، لا توحي بأكثر من استخدام دال (العقيق)[19]/المكان المدني لتأكيد أنَّ المقصود بهذه المناجاة الشعرية هم أهل المدينة. وبالرغم من تلك الظروف المعوِّقة للنهضة في العهد العثماني، ظلَّ الشعر يحتفظ بوجوده على أيدي شعراء جادين في مغالبة العزلة الفكرية والثقافية مثل: البيتي، والزللي، والداغستاني، والأسكوبـي.
ويمكن تلمُّس مثل ذلك الدور الثقافي في جهود جعفر البيتي، وعمر الداغستاني، ممن حاولوا استنهاض إمكانات المكان، ورصد أجزاء من حراكه الثقافي، عبر مساق أدبـي غير الشعر.
إذ ألفَّ السيد جعفر البيتي كتاباً بعنوان: (مواسم الأدب وآثار العجم والعرب)، وفيه «ألوان من الثقافة العربية، وتراجم لبعض الشعراء، وشيئاً من شعرهم وما قيل فيه، كما احتوى أحاديث عن التاريخ والجغرافيا، وذكر الممالك والأمم، والكتاب يدلُّ على ثقافة واسعة وإطلاع شامل تزوَّد بها السيد جعفر، ثم عكس آثارهما في هذا الكتاب، الذي يعد بادرة حسنة ومهمة في ذلك العصر الذي عاش فيه السيد جعفر، وقد نُشر الكتاب لأول مرة في جزأين عام 1326ه على نفقة الخانجي»[20].
والبيتي شاعرٌ مطبوعٌ يتوافر شعره على عناصر القصيدة العربية التقليدية، ويمثِّل نموذجاً للشعراء الإحيائيين، بما يقتضيه هذا الوصف من مقوِّمات وسمات، وبما يتميز به بناء هذه القصيدة من التزام البحور الخليلية، وجزالة في الألفاظ واستقامة ووضوح في المعاني، وتراتب في الأفكار، وقيم أسلوبية أخرى تفيد من الموروث البلاغي وأنساقه البيانية، كما اُشتهر البيتي بكتابة المطولات، ويعدُّه عاصم حمدان من أفضل شعراء جيله وممن تفنَّن في الكتابة في مختلف الأغراض، ولاسيما الشعر الاجتماعي[21].
وللبيتي ملاحم شعرية، ومطوَّلات ابتهالية تشفُّ عن وجدان مشرَّبٌ بصدق الانتماء للمكان، والإيمان العميق وحرارة التضرُّع إلى الله تعالى، وتحسُّس قيمة الجوار المكاني وقداسته، ومنها قوله:
ربِّ إني قصدت بابك فاشهد
بمقامي وما إليه أصير
يا عظيماً يرجى لكل عظيم
وعلى ما يشاء حقاً قدير
يا مجيب المضطَّر مهما دعاه
يا إلهي أنت اللطيف الخبير
لا تكلني إلى احتيالي وحولي
فهما دون ما تريد غرور
وقد شاعت قصائد الابتهال والمدائح النبوية عند شعراء هذه الحقبة، وكتب في هذا الغرض شعراء غير البيتي، مثل محمد سعيد دفتردار وغيره.
أما عمر الداغستاني فقد ألفَّ كتاب: (تحفة الدهر ونفحة الزهر في أعيان المدينة من أهل العصر) يصفه عبد الرحيم أبو بكر، بأنَّه كتابٌ مهمٌ من الناحية التاريخية.
ويأتي عبد الجليل براده في طليعة شعراء عصره في الحجاز، وهو من الجيل الثاني بالمدينة المنورة بعد البيتي، والزللي، والداغستاني، ويعدُّه عبدالرحيم أبو بكر من «أكثر شعراء الحجاز شهرة، وقد استطاع بما هُيِّىء له من ثقافة واسعة ورحلات خارج وطنه، أن يغرس اسمه في المحافل الأدبية حينذاك»[22].
فيما يصفهُ عبيد مدني في مجلة (المنهل)- التي كانت اللسان المعبِّر عن الحركة الثقافية بالمدينة ومدوَّنة سيرتها الأدبية بحكم وعي وجهد رئيس تحريرها وصاحبها عبد القدوس الأنصاري- بأنَّه «من أبرز أعلام المدينة المنورة علماً وأدباً ووجاهة، لم ينحجز صدى سمعته بين ساكني المدينة المنورة وحدها، ولا في الحجاز وحده، بل تجاوزتها إلى أبعد مدى، وتردَّد ذكره في مجتمعات العلم وأندية الأدب»[23].
وفي السياق ذاته يشير عبد القدوس الأنصاري كذلك إلى الشاعر المدني محمد العُمري-من شعراء القرن الرابع عشر- ويشبهه «بالبارودي في جزالة الألفاظ، وتدفق المعاني وعروبة البيان، وبث الشكوى والأشجان، والمساهمة في حوادث الأكوان»[24].
وللشاعر العُمري نص شعري يصف فيه حال المدينة المنورة، بعد هجرة أهلها منها اضطراراً في أحداث الحرب العالمية الأولى، ونرى فيه أسماء الأماكن التفصيلية في إطار المكان/المدينة المنورة، ولعلَّه من النصوص الشعرية النادرة التي يبدأ فيه شاعر من ذلك العصر بتصوير هذه الأماكن، والحنين إليها، وشكوى الخروج منها.