رواية " إستلوجيا " ، تأليف صلاح صلاح ، والتي صدرت عن
أنت هنا
قراءة كتاب إستلوجيا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عندما اتصلت بي هاتفيًّا كنت ما زلت أعاني من تأثير سكرة الأمس مع صديقي ميري، صوتك كان مرتعشًا، لجوجًا ومتأرجحًا. قلت إن هناك ما هو عاجل. كلماتك مثل صفيح يقرقع تحت المطر. لم أفهمك بمثل هذا الاقتضاب. كنت أعرف أنك لاتتصلين بي إلا لأمر خاصّ - ربما سيىء - وأنّ عَلاقتنا كأمّ وابن كانت في الحضيض، لأنّي ابنك من زوجك السابق، الميت. استلفت ربع دينار من جدّتي وودّعت ميري. ثم ارتديت أسمالي، خرجت إلى الشارع أو العدم أو أي سخافة أخرى. وجدت على بعد مسافة من البيت الرفيق خلف الذي أخذ يطاردني مثل قوّاد ويطالبني بتوقيع استمارة الانتماء إلى حزب البعث. عَهَرة. برد شباط كبير، يجلعني أشبه بماكنة تدور بسرعة خياليّة وأصوات ارتطامات وزيوت تسيح. شعرت بشهوة غريبة للتبوّل على كل شيء، على الوجوه، الحثالة، الذاتيات السائرة ببله الأعوام والقدرة على امتصاص الغائط والشعارات والهُتاف للقيادة. الأصابع تهتزّ بفعل التدخين والجلغ، أصابعي كسَعْف، أشعر بها، كطائر الزّق، كقطّة في حالة ولادة حيث ينفلق الفرج إلى النهاية ليخرج الجسم الجديد.
لم أجد في الجوار ولا في أيّ مكان آخر مرحاضًا. تبوَّلت خلف نخلة عراقيّة، نخلة شامخة بروح البعث والبرق والرعد. كنت أضحك وأنا أبول بروح ملتوية وكأنّما أسافر على الأجنحة السماويّة للملائكة. سيارات الشرطة تزحف على الشوارع مثل ديدان على كل حياتك. جاء مدير المدرسة المسائيّة التي درست فيها يوماً ما، وبعد أن اقتحم الصَّف بنزق البعثيّ وأغلق الباب، طلب من كل شخص غير بعثيّ التوقيع على استمارة الانتماء لحزب البعث، واستمارة أخرى بأن لا تنتمي إلى حزب غير حزب البعث، وإذا ثبت العكس، تعدم. أسهل شيء في هذا الوطن هو الإعدام.
بُصاق، تفال، العالم كله يبصق عليك. يجدر أن تتخيل، تتزحلق في هذا الوطن من دون إرادة منك. بعث في كل مكان، بعث في المراحيض، في الهواء في العاصفة، في علاوي الحلة، في الدرابين، في الأزقّة، في مستشفيات الأمراض العقليّة، في البارات، في مستشفى المجانين، في بيوت القحاب، في الدوائر الرسميّة وغير الرسميّة، في العيادات والعيادات الخاصة بالأمراض التناسليّة الجلديّة والزهري وأمراض السيلانات. الوطن كبير، إلى الدرجة التي يخنقك فيها. يعاملك كأنّك كلب أجرب تهزُّ ذنبك وتعوي وتهرب إلى المزابل والمستشفيات والأمراض الذهنيّة أو تتزوّج جنيّة وتخلص من كل شيء.
دخلت مرحاض المدرسة وقتها، بعد خروج المدير من الصّف ودخّنت أربعة أعقاب سجائر وعود عنب. وعندما خرجت وجدت أمامي لافتة كبيرة كُتِب عليها: (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة). (الطالب الجيد هو البعثي الجيد).
أبصق عليكم في روحي الخفيّة لكنّي أخافكم. أرتعب منكم. أحد الأولاد رفض التوقيع على استمارة الإعدام في الصف. تم إخراجه وبعد أيام اختفى. قالوا إن أهله - شيوعيون أمّه تكسب الرجال للحزب عن طريق القُبل والدُّبر. شعرت بتقزز، هم لا يريدون استمارة الانتماء للحزب بالقدر الذي يريدون فيه توقيعك على استمارة الإعدام. في طريقي إلى موقف الباص اختفى الرفيق خَلَف لكنّي التقيت بسعد الخبل صرخت به - بارود سكين وملح - لاحقني مسافة طويلة، سعد ابنٌ بعثيٌّ قديم تم سحل والده أمامه من قبل الشيوعيّين عام ١٩٥٩ وهم يهتفون بارود سكين وملح، منذ ذلك اليوم أصبح هذا الشخص يرتعد ويتشنّج لسماع هذه العبارة، غالبا ما كنّا نمرّ من أمام بيت سعد ونصرخ - بارود - فيخرج المسكين كشيطان يتأجّج ليطاردنا.
وصلت موقف الباص لاهثًا ومرتعشًا، شعرت أنّي أختنق بسبب كثرة التدخين والجلغ، ولا يمكنني الركض لعشرة أمتار.
في موقف الباص وفيما كنت أبحث عن سيجارة توقَّفت أمامي سيارة الشرطة وترجل منها الشرطيّ الحقير - أبو بعث - وقف أمامي مثل أي إنسان شرس وطلب منّي - بلكنة تكريتيّة - أن أراجع مركز شرطة اليرموك لتجديد معلوماتي الأمنيّة في بطاقة المعلومات المركزيّة. جاء الباص وتعلّقت به مثل شيوعيّ يلتصق بك ليكسبك إلى حزبه.
في الباص كنت أشعر أني أضيع في غمامة من الوهم، عالم من البعثيين يزأر في كل مكان. كان بالإمكان رؤية روح البعث تلف اللصوص والقوادين والرعاع والنصب التذكارية. مشهد للخراب المتأصل وأنت تنتظر ساعات كاملة وفي النهاية يجيئ الباص مليئًا ومحشورًا بالبشْر. كنت تستطيع في زوبعة البرد الشباطي الذي يلف كل شيء أن تجد روحك هاربة ومستلبة وأنت أشبه بكلب أجرب يطارد الفراشات.
في الباص الذي تعلقت به بعد مأساة الانتظار، كنت أفكر في سبب اتصالك بي. لمَ لم تتصلي بزوجك؟ أنا لست إلا نكرة في ذهنك و… روحك.
أشعر بارتجاف في شفتيّ ونوع من الاكتئاب يحلَّق في ذهني. من نافذة الباص أشاهد ضوء النهار وهو يدفع بعيوننا إلى مسافات عائمة بلا حدود. أصل الباب الشرقيّ ومن هناك أستقلّ الباص إلى مدينة الثورة. وعندما أصل هذه المدينة النائمة على القاذورات والأوساخ والجيف المتنّقلة والمخلوقة من ميثالوجيا الكره والوساخة واللعبان نفس، أقف عاريًا ومملوءًا بالتفاهة أمام البيت.. تُفتح البوابة الحديديّة بصراخ القلاع المتروكة وتستقبلني ربّة البيت بملابسها السوداء وعباءتها الحائلة اللون ومؤخّرتها الناشفة ولا أستطيع التفكير بأنها مشروع جديد للجلغ، أسير خطوات و.. أجدك متكوِّرة في الغرفة الوحيدة في البيت وصور علي بن أبي طالب وجيفارا ولينين والحسين معلّقة بخيوط جنبًا إلى جنب. وعلى أفرشة مليئة بالعثة أجلس قربك مثل آلهة تركها الأبناء والرهبان، تخبريني عن كل ما حدث بوَجَل وارتباك وتيهان. أقول إنك مضطربة، مضطربة جدًّا. ربما هي كذبة، أقول وأمسك يدك وأنت ترتعشين. كنت وقتها عبارة عن حنجرة مرتبكة وقلقة، حنجرة بلا صوت مسموع وبلا فوارز ونقاط. تقولين: ليست هي كذبة، الوضع سيئ جدا ويتطور بسرعة، قبل أيام اقتحموا مقر الجريدة(4) انهار كثير من الرفاق في التحقيقات، زوجي يشعر أنه مراقب بشكل حثيث. سيعتقلوه الآن أو غدا. أحاول أن أهدئ من روعك، تنحنين على يدي وتبكين. فتشوا البيت تقولين: الأمن يبحث عنّي الآن. البيت مليء بأوراق الحزب؟ أنا تائهة لا أستطيع التصرّف، ربما انهارت منظمتنا ولا أعرف مصير الأطفال، من سيعود بهم من المدرسة؟ أنظر في وجهك وأقول: ألم أقل لك سابقًا اتركي هذا الحزب؟ وتعترضين بقوة. تناوليني عناوين لأماكن تواجد زوجك المحتملة. أبحث عنه في كل مكان، جده بسرعة، قل له إن البيت مراقب. لا تدعه يقترب منه أرجوك. أنظر بتيهان إلى النافذة الصغيرة في الغرفة والمظللة بخرقة بائسة، ربّة البيت تقف مكتوفة الأيدي عند
الباب لكنّي ألمح قلقها.. الحزب يُطارَد هل تعرف هذا؟ تقولين بتشنُّج: أحاول أن أقول لك إنّكم تقامرون، بينكم خونة. قلت لك لا تتبعي زوجك طلِّقيه. تنظرين في عينيّ مباشرة. لا تتحدث عمّا قلته لي سابقا، أنقذ الأطفال الآن، دبِّر لهم مكانًا ثم ابحث عن زوجي، آه نسيت خذ السيارة إلى عليّ شقيق زوجي، من الخطر أن تبقى هنا. أسأل: أنا أم السيارة؟ تجيب: السيارة طبعًا.
***