إذا كانت الجغرافية الوعاء الذي يحتوي العلوم كافة, باعتبار أن غايتها الإنسان ومنطلقها الإنسان, فإن هذا لا يعني أن الجغرافي هو العالم بالعلوم كافة, وإنما علمه فيها بالقدر الذي لتلك العلوم من تدخل في الوسط الذي يعيش فيه الإنسان متأثراً ومؤثراً به.
أنت هنا
قراءة كتاب البحث الجغرافـي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

البحث الجغرافـي
الصفحة رقم: 5
هناك وجهتان للبحث الجغرافي تحددهما طبيعة الجغرافية كعلم مكان, والتطورات العلمية والتقنية التي أنتجت ثورة كبيرة في المعلومات التي انعكست على المنظومة الجغرافية, باعتبار أن خصائص المكان تحدده جملة عوامل, تتمثل في: الموقع والتضاريس والمناخ والتربة والنبات والحيوان, ومدى إمكانية وجود الإنسان, ومن ثم طريقة تواجده, في وحدات منفردة أو مجمعة, ونمط حياته, ونشاطاته الاقتصادية... إلخ.
فالجغرافي رغم ما تثيره الظواهر والمظاهر الفردية, إلا أنه في النهاية لا يمكنه عزلها عن إطارها المكاني. ونتيجة للتداخل الكبير للجغرافية في العلوم الأخرى التي عاشت في منتصف القرن الماضي مرحلة من التجزؤ عرفت بمرحلة التخصصات الدقيقة, مما وجد صداه أيضاً في الجغرافية التي انحسرت فيها النظرة الشمولية لصالح النظرة الانقسامية ـ فيما يسميها البعض النظرة الرأسية ـ, وليس في ذلك انتقاص من الجغرافية إذا كانت الغاية دراسة الأجزاء من أجل التركيب, إلا أن التجزؤ بات تفكيكاً, وليس جزءاً من الكل, ومن ثم بات الحديث عن الشمولية والتحليلية في الجغرافية, لا يبتعد كثيراً عن هذين المفهومين في السياسة. رغم أن التحليل بمفهومه العلمي لا يتم لذاته, وإنما من أجل التركيب. وكمثال؛ عندما يعاني الإنسان من مرض ما في جزء من جسمه مما ينعكس على صحته كاملة, فيلجأ الطبيب إلى الطلب من المريض إجراء تحاليل دموية, وبولية, وصور شعاعية.. وغيرها, وذلك لمعالجة المشكلة التي يعاني منها المريض, والتي في التحليل شفاء الكل وقوته.
2 ـ 1 ـ الاتجاه التحليلي (Analysis Approach):
الاتجاه التحليلي ليس كما يمكن أن يظن البعض أنه المرادف لما اصطلح عليه تسمية الجغرافية الأصولية؛ وإنما هو اتجاه بحثي في الجغرافية ما كان منها أصولياً أو إقليمياً, أو غلب عليه الطابع الجغرافي التاريخي. وهو المرتكز الأساسي الذي على الباحث أن يبدأ منه حتى يتيسر له تشخيص مشكلته وعلاجها ولتتكامل بذلك جوانب الموضوع وهي معافاة, بما يمكن التخطيط المستقبلي لها.
والاتجاه التحليلي لا غنى عنه تقريباً في أي بحث, وإن كانت درجات الإبحار فيه مختلفة تبعاً لطبيعة الموضوع وهدفه ومنهجه. فإذا ما أخذنا مثالاً ظاهرة جغرافية أصولية, ولتكن: الاتجاه العام للأمطار في سورية خلال الفترة من (1930وحتى 2008م) فهنا نجد بأن التحليل يشمل:
1 ـ المكان: بأخذ مجموعة محطات ممثلة للخصائص المناخية في سورية.
2 ـ الزمان: دراسة التغيرات على مستوى السنوات, وكذلك على مستوى فصول السنة وأشهرها المطيرة, وذلك للكشف عن التذبذبات والتقلبات, ووجهة التغير العامة التي تمثل البناء الهيكلي الرئيسي الذي هو غاية البحث (النظرة الشمولية) وليس هدف البحث, لأن الهدف في الجغرافية من دراسة ظاهرة لا يكون لذاتها, وإنما لما يبنى عليها؛ أي بمعنى آخر لاستخدامات أخرى تحقق هي وغيرها الوحدة الجغرافية. ولا يتحقق ذاك الهدف إلا بمزيد من التحليل في الظاهرة, لمعرفة أسباب تلك التغيرات.
إن موضوعاً بعنوان: (مناخ مدينة دمشق, أو الخصائص الحرارية لمدينة دمشق, أو الجزيرة الحرارية لمدينة دمشق), هو في المظهر موضوعاً متخصصاً, وقد يحسبه باحث مبتدئ أنه موضوع تحليلي, لأنه يعالج ظاهرة جغرافية أصولية مفردة (المناخ, أو عنصر منه), إلا أنه في الواقع بحث تحليلي وشمولي في آن واحد, فالتحليل فيه لغاية التركيب. ففي دراسة مناخ مدينة دمشق, لا بد من دراسة كافة عناصر المناخ (حرارة, ضغط, رياح, ورطوبة جوية ومظاهر تكاثف وتهطال), وكل عنصر لابد من دراسته رأسياً؛ أي تحليلياً, ففي الحرارة كمثال: لابد من دراسة التغيرات الساعية في أمكنة متباينة, وإظهار دور العامل الجغرافي (الموقع والتضاريس..الخ) والبشري في ذلك. وكذلك بقية العناصر, حتى تتكون بالتالي صورة متكاملة عن مناخ المدينة المتميز عن مناخ الريف المجاور له.