إذا كانت الجغرافية الوعاء الذي يحتوي العلوم كافة, باعتبار أن غايتها الإنسان ومنطلقها الإنسان, فإن هذا لا يعني أن الجغرافي هو العالم بالعلوم كافة, وإنما علمه فيها بالقدر الذي لتلك العلوم من تدخل في الوسط الذي يعيش فيه الإنسان متأثراً ومؤثراً به.
أنت هنا
قراءة كتاب البحث الجغرافـي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

البحث الجغرافـي
الصفحة رقم: 9
فأي علم هذا اسمه الجغرافية, يتعامل مع هذا الكم الهائل مع ما أسميت مناهج؟ وماذا يعكس ذلك؟ ألا يعكس الانقسام الكبير في الفكر الجغرافي وتشتته, وفي النظرة إلى الجغرافية من الجغرافيين أنفسهم, وفي معرفة هويتهم. فإذا لم أعرف من أنا, ومن أكون, فهل الآخرون هم سيعرفونني.
وبسؤالي لأستاذي الدكتور صفوح خير, وهو علم من أعلام الفكر الجغرافي عن رأيه في هذا العدد الكبير والمتزايد من المناهج الجغرافية؟ وهل هذه مناهج؟ كانت إجابته تلقائية: «إنها أمراض جغرافية, وليست مناهج بحثية جغرافية. وهي بحاجة إلى أطباء علميين لمعالجتها».
3ـ 2 ـ المناهج الجغرافية:
هناك منهجان يكادان يستخدمان في العلوم كافة, بغية الوصول إلى الهدف من أي بحث كان, هما:
3 ـ 2 ـ 1 ـ المنهج الاستقرائي (Induction .M):
وهو الذي يمكننا من قراءة ما بين السطور للوصول إلى الفكرة أو المفهوم العام. أو بمعنى آخر هو انتقال من الخاص إلى العام, ومن الظواهر إلى قوانينها, ومن الأمثلة الجزئية إلى نتيجة عامة.
فالمنهج الاستقرائي؛ يبدأ بالملاحظة والتجربة تمهيداً لصياغة الفرضية والتأكد من صدقها, ومن ثم التوصل إلى النظرية التي تفسر المشكلة. والمنهج الاستقرائي يعتمد على الطريقة التجريبية. ولذا يوصف بأنه منهجٌ تجريبيٌّ.
والمنهج يتطور بتطور الأساليب والطرائق والأدوات, فبينما كان المنهج الاستقرائي, يعتمد قبل الستينات من القرن العشرين على استخلاص النتائج من خلال كتابات الجغرافيين أنفسهم؛ إذ يقوم الجغرافي على تجميع أكبر قدر ممكن من الدراسات الوصفية لموضوع واحد, ثم فحص العناصر المتشابهة المستخرجة, ومن ثم مقارنة النتائج والبحث عن تعميمات ممكنة بغية الوصول إلى صيغة مقارنة شاملة, حيـث النتيجة النهائية للنظرية(4). أصبح بعد السـتينات مــن القرن العشرين, وبخاصة في السنوات التي مضت من القرن الحادي والعشرين يعتمد على الملاحظة والتجربة, ما كانت مخبرية أو حقلية أو قياسية كمية, بالاعتماد على الأساليب الكمية المختلفة.
وقد تتغير السبل المستخدمة في هذه العمليات المتشابهة قليلاً أو كثيراً؛ فبروكفيلد (Brookfield) (1964) الذي كان يدرس مراحل البحث في الجغرافية البشرية يشير إلى أنه بالإمكان اتباع المراحل التالية:
1 ـ البحث أولاً عن التعميم من خلال دراسة العلاقات المتبادلة بين الظواهر ضمن وحدة مكانية كبيرة.
2 ـ ثم الشروع في أبحاث محلية للوصول إلى تحديد التركزات أو التوضعات (Localisation).
3 ـ وأخيراً تصنيف النتائج العامة والخاصة وتنظيمها, بغية الوصول إلى تفسير عام؛ أي اللجوء إلى العمليات نفسها التي ذكرناها سابقاً, ولكن انطلاقاً من البند الثاني ثم الأول وأخيراً الثالث.
وحسب وجهة نظر هاكيت (Haggett) فإن البحث السليم هو الذي يبدأ من الخاص إلى العام, ومن المعلوم إلى المجهول, ومن فحص التفاصيل العديدة إلى
الانتهاء بالقوانين العامة.
ولقد وضع فرانسيس بيكون أسس المنهج الاستقرائي, الذي أوضح أنه على الباحث أن يجمع الحقائق التي تعتبر أساس المنهج الاستقرائي ومادته, كما حدد مراحل البحث بالآتي: 1ـ مرحلة التجريب, 2 ـ مرحلة تسجيل التجربة, 3 ـ مقارنة ما تم تسجيله لاستخلاص خصائص الظاهرة موضع الدراسة, 4 ـ القيام بالتحقق من النتائج لإثبات مدى صحتها أو خطئها. والنتائج الأولى هي فروض عملية, لابد من اختبارها حتى يتأكد الباحث من صحتها, لتصبح قاعدة أو قانوناً(5).
ويغلب المنهج الاستقرائي على معظم الكتابات القديمة, الذي يظهر بشكل جلي في الكتابات العربية, كما في: كتاب المقدسي (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم), وكتاب اليعقوبي (البلدان). وكتاب (المناظر) لابن الهيثم, الذي يقول فيه: «يبدأ البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات, وتميز خواص الجزئيات ويُلتقط باستقرائها ما يخص المبصر في حالة الإبصار وما هو مطرد لا يتغير, وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس, ثم أرقى في البحث والمقاييس على التدرج والتدريب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في الغلط في النتائج, ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا إتباع الهوى, ونتحرى في سائر ما نجيزه وننقده طلب الحق الذي به تثلج الصدور, ونصل بالتدرج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين, وتظهر مع النقد والتحفظ التي يزول معها الخلاف وتنسجم به مواد الشبهات».
فهذا (ابن الهيثم) الذي عاش خلال الفترة (965 ـ 1083م) يقدم لنا ما يشكل منهجاً يحتذى به في البحث الفيزيائي والجغرافي, والذي يمكن تعميمه واستخدامه في العلوم الأخرى؛ فهو منهج متكامل العناصر بأساليبه وطرائقه ووسائله وأدواته.