اتكأت رواية "بير الشوم" للكاتب الفلسطيني فيصل حوراني هذه على الأحداث التي داهمت فلسطين في العام 1948م، إلا أنها أشادت عالمها الخاص بالاعتماد على المخيلة الروائية في المقام الأول، وهكذا رسمت (بير الشوم) صورة نابضة بشتى الألوان والإيقاعات لأشخاص عديدين وعلاقا
You are here
قراءة كتاب بير الشوم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
وما دامت البداية قد قادتنا للحديث عنه فلأقدمه لكم على الفور· فالشيخ حسن هو إمام مسجد القرية، اختير للإمامة لأنه الوحيد الذي يجيد قراءة القرآن· كان والده قد أصر على تعليمه، ثم بعث به إلى “الأزهر” ليجاور في أروقته مع المجاورين، الذين كانت قرى مصر والبلدان المجاورة، ومنها فلسطين، تقذفهم إليه، طمعاً في أن ينال بنوها شيئاً من علوم الدين ومنازل رفيعة· وفي الأزهر، أمضى الذي كان شاباً زهاء سنة عاد بعدها إلى قريته، لأن موارد والده قصرت عن تحقيق طموحه، وأعطته تلك السنة الحق في أن يُنادى بلقب شيخ وأن يلبس زي الإمام، وأعطته الإمامة الحق في أن يشرف على بئر القرية، يستثمر الحقل التابع للبئر، يرويه من فائض مائه، ويستنبت فيه الخضار، يعيش لدينه ودنياه عيشة رتيبة طبعت شخصيته بهدوء صار يميزه، وطوت، بمضي الوقت، التوق إلى العلم وطموح الشباب إلى حياة أكثر حرارة·
ومع ذلك، يمكنني، أنا الذي عرفت الشيخ، أن أقول إن طموحه هذا كان يعاوده بين وقت وآخر، ينبعث شيئاً فشيئاً حتى يسيطر عليه رغم سنوات عمره الخمسين· وقد أجج اندلاع الثورة في فلسطين مشاعر الشيخ واستفزّه قعود قريته عن المشاركة فيها· وأعتقد أنكم، بهذا، عرفتم سبب سهاد الشيخ، فقد أمضى الليلة الفائتة وهو يفكر في الأمر، يُقلبه على وجوهه كافة· أحس بأن عليه أن يحسم الأمر، وأنه يستطيع ذلك لو جازف بمجابهة المختار علانية· وكان موزعاً بين رغبته في المجابهة وتخوّفه من نتائجها· ولهذا لم يستطع أن ينام، بل قرر أن يغادر داره· وهمّ قبل المغادرة بأن يوقظ وحيده، واسمه حسان ليذهب إلى المدرسة· ثم تذكر أن اليوم هو يوم جمعة، فترك ابنه وأمّ ابنه نائمين ومضى هو إلى البئر· وهناك رشق وجهه رشقات متتالية بالماء البارد، متوخياً التغلب على ثقل رأسه، فأنعشه الماء، ومضى يتفقد مساكب الحقل دون أن يكون بحاجة إلى تفقده، كأنما أراد أن يشغل نفسه ليصرف ذهنه عن الخاطر الذي يلح عليه في أن يذهب إلى المختار ويجادله في أمر المشاركة في الثورة· ولم يجد في الحقل ما يشغله· كانت نبتات البندورة والخيار والفاصولياء على خير ما يرام· ونبتات البطيخ كانت قد شقت الأرض وأخذت عيدانها الخضراء المزغّبة تتمدد فوق التربة الناعمة، تكسوها الأوراق الطالعة التي جعلها الندى لامعة براقة· وأوراق البصل كانت تمتد فارعة كأنها نخلات صغيرة تبالغ في الاعتزاز بنفسها·
ولم تثر جودة الموسم في نفس الشيخ أي إحساس خاص، بل ظلت الكآبة التي يغالبها لاصقةً به مثلما يلتصق العرق الجاف بالجسم الوسخ، كما ظلت الخواطر تلاحقه، فعاد إلى البئر، وجهز البغل وربطه إلى الساقية وحركه· فبدأ البغل دوراته الثابتة فوق الدائرة التي صلبتها أقدام بغال كثيرة قبله طيلة ما لا يدري أحد من السنوات وأخذ الماء الذي تسحبه القواديس من البئر ينصب في الجابية المعدة لجمعه، محدثاً هو الآخر صوتاً رتيباً كرتابة دوران البغل، الأمر الذي عمق إحساس الشيخ بالكآبة· وكأن كآبة الشيخ انتقلت إلى البغل، فقد توقف هذا عن الدوران، فانتهره الشيخ بصوت مرتفع أنكره هو نفسه· ثم فاجأه صوت: