اتكأت رواية "بير الشوم" للكاتب الفلسطيني فيصل حوراني هذه على الأحداث التي داهمت فلسطين في العام 1948م، إلا أنها أشادت عالمها الخاص بالاعتماد على المخيلة الروائية في المقام الأول، وهكذا رسمت (بير الشوم) صورة نابضة بشتى الألوان والإيقاعات لأشخاص عديدين وعلاقا
You are here
قراءة كتاب بير الشوم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
لاحظت أم حسان حين استيقظت أن الشيخ لم يتناول فطوره، فسلقت بيضتين ووضعت رغيفاً وملحاً وفلفلاً مطحوناً في صرة، وحملتها إليه يرافقها حسان· لم يفاجأ الشيخ حين رآهما مقبلين· كان مزاجه قد راق فبادل زوجته تحية باشّة· وتقبل برضى حركة حسان حين وقف بجانبه واحتضن خاصرته بأحد ذراعيه·
- قلت أجيب لك إشي توكله·
- بارك الله فيك، الأفضل نروح للدار، نوكل هناك·
وانتشل من مسكب قريب بعض رؤوس الفجل· وقطع أوراقاً من البصل· وعادت الأسرة إلى دارها·
وفي الدار، أكل واغتسل استعداداً للصلاة· ثم تمدد ليستريح بانتظار حلول موعد الأذان· وقد غلبه النعاس فاستغرق في النوم· وفي الحلم رأى نفسه في الأزهر يجلس في حلقة الشيخ الذي كان يحفظّهم الحديث النبوي· ورأى شيخه يشير إليه كي يعيد قراءة الحديث الذي حفظهم إياه في اليوم السابق، فيكتشف أنه لا يحفظه ويتجاهل إشارة الشيخ وكأنها موجهة لسواه· غير أن الشيخ يقول: “أنت يا فلسطيني اتل الحديث”، فلا يملك أن يتجاهل الأمر بل يقف متردداً وشيخه يلح· وتختفي حلقة الطلاب فلا يبقى في الرواق سواه هو وشيخه، وشيخه يزعق غاضباً بكلام لا يسمعه، وهو يحاول أن ينطق فلا يستطيع· ويسترعي انتباهَه وضعُ أعمدة الرواق: تستدير نحوه وكأنها رجال يلتفتون كلهم إليه وحده، ثم تثخن الأعمدة وتقصر، ويهبط السقف نحوه بمقدار ما تقصر الأعمدة، والشيخ ما يزال يزعق ويصبح بكلام غير مسموع ومسموع في الوقت نفسه، والفناء كله يضيق ويضيق، ومعه يضيق تنفسه الذي غدا صعباً، وهو يعرق ويجاهد لكي يبتلع قدراً كافياً من الهواء·
في مقدوري أن أحكي المزيد عن الحلم الذي رآه الشيخ، لكني أوثر ألا أثقل عليكم كما أثقل عليه حلمه، والواقع أنه لم يلبث أن استيقظ من ذلك الكرب فوجد امرأته تهزه بعنف·
- نمت وأفسدت وضوءك، قم شوف إيش صار!
- خير انشاء الله·
قالها تعقيباً على الحلم الذي رآه، وظنت هي أنه يسألها عما جرى·
- وصل مفزِّع من “بيت دراس” بيطلب النجدة·
- خير إن شاء الله·
- الهاجاناه هاجمتهم، والمعركة دايرة هناك من الفجر·
أيقظته هذه الكلمات، ومن المدهش أنه رغم أن النعاس كان ما يزال يسيطر عليه قد فهمها بجلاء، كأنما كان يتوقعها·
قالت زوجته: “صار وقت الصلاة”· قالت ذلك وقدمت له القمباز والجبّة، ثياب الإمامة، لكنه لم يرتدها، بل غادر الدار وهو يقول لزوجته:
- خلّي بالك من حسان!
- بقول لك وقت الصلاة صار·
- أنا رايح للبدرساوي، إن كانت قريتهم متضايقة لازم نعمل إشي·
فوقفت هي محتارة· وتمهل هو برهة أمام باب داره وحسان بجانبه، ورأى شاحنة عباس تقف في الساحة ونفراً من رجال القرية يحملون بنادقهم ويقفون بجانبها يتبادلون الحديث مع شاب غريب حزر أنه البدرساوي، فاتجه إليهم وهو يسير بهدوء·
- خير يا رجال؟
- خير إن شاء الله·
ثم شرع البدرساوي يشرح، والشيخ يصغي بنصف انتباه: هاجموا القرية من ثلاث جهات وهم الآن في الكروم، ورصاصهم يقطع طريق الإسفلت، القرية في ضيق···
التفت الشيخ لرجال قريته: “مستعدين؟”· ولم ينتظر الإجابة بل تابع مخاطباً حسان: “روح لجدك وقل له: أبوي عاوز الباروده”·
وهتف عباس: “حيّاك الله يا شيخ، بنروح كلنا بالسيارة”·
قال الشيخ: “اسبقوني! لازم ألبس”· وعاد إلى داره، ولبس القمباز والجبّة، ووضع العمامة، وقبّل حسان، وودع امرأته بكلمات قليلة، ولحق بهم·