كتاب "الحلم والتوق إلى الحرية"، إنها نصوص أدبية / نقدية حالمة توّاقة ، بل هي همسات قارئة تحاول إيقاظ نصوص إبداعية أخرى – راقدة تحت دِثارها اللغوي – من سباتها ، في ضوء قراءة تأويلية متعمقة ، تطمح إلى ترويض دلالات النصوص المقروءة الجامحة ، في براري الحياة الإ
You are here
قراءة كتاب الحلم والتوق إلى الحرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
ما ذكر أفضى للبوح عن مكنونات ودخائل الذات الإنسانية بمحاورتها والتعبير عما هو محرم عليها البوح به، باعتماد "المونولوج" الداخلي والتداعي للشخوص والأحداث والمواقف والأزمنة، كل ذلك أعان كتاب القصة، لإبتداع أنماط قصصية خالية من السرد الميت، المحنط، ومتحررين من القوالب الجاهزة، التي صبت فيها القصة النمطية التقليدية.
تمثل النص والذي نعتناه بـ (نص الحرية)، الواقع، وعبر عنه بصدق وشكـّل هويته، والمرجعية التي أغترف منها مادته وشخوصه، ونماذجه واستلهم لغته اليومية.
ولكن بعض الكتاب والمبدعين الذين تبنوا هذا الإتجاه، وعبروا عنه وكتبوا هذا النص، والذي تمثل في مجموعات خليفة التكبالي "تمرد" وأحمد إبراهيم الفقيه "البحر لا ماء فيه"، و "أربطوا أحزمة المقاعد"، ويوسف الشريف "الجدار" وكامل المقهور "14 قصة من مدينتي"، وعبدالله القويري "الزيت والتمر"........ الخ
على سبيل المثال.. استطاعوا أن يطوروا من مضامينهم، واللغة التي استعملوها في التناول والمعالجة، في كتاباتهم التي تلت ذلك فجاءت حافلة ومشحونة بمضامين جديدة وأكثر طزاجة وشاعرية، كما أنهم خرجوا من أسر الزقاق.
والشارع والمحلية الموغلة، فأتت أعمالهم الجديدة أكثر نضجاً محملة بشحناتٍ إنسانية، كإفراز طبيعي للعوامل التي سبق ذكرها، والإشارة إليها.
فبقراءة متأنية وواعية، لمجموعة "الجدار" للأستاذ يوسف الشريف و"البحر لا ماء فيه" للأستاذ أحمد الفقيه، نجد أنهما تمثلان النص الأول. فمجموعتاهما القصصيتان تصوران الواقع اليومي المعيش، في تلك المرحلة كما أنهما ولكل لغته، ومضامينه ودلالاته، وأسلوبه الخاص وإن اتفقا في العرض والمعالجة وانتقاء النماذج إلى حدٍ ما، نراهم في كتاباتهم اللاحقة يؤسسان بناءاً في غاية الجدّة، وينحتان مفرداتهما نحتاً، من كون شعري موغلٍ في البوح والتوق الإنساني نحو الخلاص وتحرير الذات. تمثّل هذا التحول على صعيدي اللغة، والنماذج والأحداث "إنّ الشيء لا يعنيني في حد ذاته وما يعنيني هو الدلالة، خلف هذا الشيء " 6.
إنّ سرعة التحولات والتبدّلات، الطارئة والمذهلة في آن والإيقاع اليومي الدفاّق وتناسخ العديد من المعتقدات وتباين هشاشتها وتساقط الكثير من المثل العليا والمعتقدات والعقائد، والتي كان يُنظر إليها في الماضي كثوابت، وأنماط كمناهج، "ايديولوجية" سياسية وثقافية، ثبت زوالها، وأصبح من عدم اليقين الركون إليها، وتمثلها، والإغتراف منها وما كان نمطاً، أو مثالاً لم يعد كذلك.
وكذا على مستوى النموذج البشري، الكادح البسيط، الذي تبدّل ولحقه التحول الذي طرأ على مجمل العلاقات الإنسانية، والذي كان يمثل الشريحة الأكثر قرباً للمبدعين، والذي أخذ مساحة لا بأس بها في أعمالهم القصصية وصار التحول إلى الحلم، والفنتازيا، والنزوع إلى معالجة الشرائح الأكثر تأزماً.
والتي أصيبت بالإحباط والإكتئاب لما أصاب المد القومي من نكوص وهزّات وما لحق بالمواطن العربي من هزائم وانتكاسات. وكمحصلة تراتبية للتواتر السريع الذي صاحب إيقاع الحياة الراكضة وعدم قدرة هذه الشرائح على الوصول إلى ما تحلم به. ولإيضاح ذلك نقرأ من مجموعة "امرأة من ضوء" للأستاذ / أحمد إبراهيم الفقيه، لنجدها تمثل هذه المرحلة، مستوعبة ما طرأ على نماذجها من تبدّل وتحول.
فاللغة لم تعد تجسد الواقع وتنقله فقط، بل تحولت وتناسخت لدى الكاتب إلى فسحةٍ من الشعر، فجاءت كمنجم مليء باللآلئ، وينبوع يتفجر بالحب والشاعرية. فحين يهمس لحبيبته قائلاً : "يجب ألاّ ننتبه بما يحدثه ظهور القمر بقطيع الغزلان، ووعول الصحراء وكائنات الغابة وما تحدثه مشاهد الشروق والغروب بغابات النخيل ونوارس البحر، وحقول الحنطة، وجداول الماء القادمة من قمم الجبال الشاهقة وما يحدثه وميض البرق بالفراشات والأشجار، وأعشاش الطيور " 7.
شوق عارم للتوحد بالطبيعة، والإندغام بتجلياتها، وبوح صوفي ينبثق من نفس شفافة عذبة، ومن أجل من يحب، نراه يتجلى ويركب الصعاب فهو العاشق الوله "والمتيم المغرم" ولكنني لو فكرت لما وجدت اسما غير هذا الإسم وسيكون منذ اليوم تميمتي وتعويذتي التي أدخل بها النار فتصير بردا وسلاما واشق بها البحر فيمتد أمامي طريقا وأركب بها الريح، فيصير بساطا أو جوادا " …8
وهو في توقه وتحولاته، من عوالم البشر الأرضية، وانتماءاتهم الطينية يُمنَّي النفس دائماً بالتحول إلى عالم الجن، ذلك العالم الآخر المليء بالطلاسم والأحاجي والروحانيات والمتطهر من أدران البشر، ونقائصهم.
يحيلنا إلى عالم آخر ساحر مشوق غامض وبديع.
"ها هي تطعمني من طعام أهل الجن، وتسقيني من شرابهم، وتأخذني في سياحاتٍ إلى عوالم هؤلاء الناس وتمنحني حباً يغمر حياتي بأمطار الفرح.. " 9
أحبائي / لتسمحوا لي ولنغترف قليلاً من فضاء الأستاذ يوسف الشريف هذا النّحات الوله، الرسام المبدع، الذي ينمق حكاياته وقصصه بأنامل موغلة في الحميمية والتذوق الرهيف، لما يصنع من قصته "آخر الحكايات"، نقتطع هذه العناقيد :-
"…… لم أكن قد رأيت من قبل ولدي هكذا، متورد الخدّين، متوهج النظرات، يتفّجر عنفواناً، ونجوم الفرح الغامر تتلألأ في العينين العسيليتين الصافيتين، والجسد يهتز نشواناً، راقصاً، تمنيت لحظتها لو تكن خالدة لغة الطفولة …" 10
عصفوران هما، كلاهما يحب الآخر، ويتعشّقه، ويحنو عليه، بصدقٍ وشفافيةٍ.. يحلمان بالفضاء الرحب، والتحليق في الأعلى، والتحرر من الأسر والعبودية. الطفل والعصفور مخلوقان من ضوء شفاف، بريء، يتوقان للتوحد بالفضاء. "قفز واندفع كفراشة ربيع طال شوقها لرحيق المروج.." 11
يحيلنا الكاتب في هذا النص، إلى فضاء الشعر وعذوبته، وبتوقه إلى كل ما هو إنساني وإلى شفافية اللغة، وطهرها الأول، وإلى عمق الدلالات الموحية بحلم الإنسان وتوقه الدائم إلى الحرية.