كتاب " كازانوفا في بولزانو " ، تأليف ساندور ماراي ترجمه إلى العربية إيمان حرزالله ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب كازانوفا في بولزانو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كازانوفا في بولزانو
أشعل في النهاية فانوساً واصطحب ضيفيه إلى الطابق الأعلى. كان الخدم منهمكين في تجهيز المكان: جلبوا شمعدانات كبيرة مطلية بالذهب، وماءً ساخناً في آنية فضية، ومناشف كتان صناعة ليمبورج. خلع الضيف ملابسه ببطء مَلَكي، كملك في حمّامه، ناول ملابسه القذرة قطعة قطعة لصاحب الفندق وخدمه الذين اضطرُّوا لقص سرواله الحريري المُضرَّج بالدماء من كلا الجانبين لالتصاقه بجسده، غمر قدميه في الآنية الفضية المليئة بالماء وهو يميل بجلسته إلى الوراء في مقعد بذراعين. متلبد الشعر ومهيب، يكاد يفقد وعيه إجهاداً. غلبه النوم في لحظات قليلة وتمتم وصرخ، جاء بالبي وصاحب النُّزُل والخدم وحاموا حوله بأفواه فاغرة، أعدوا الفراش في غرفة النوم، وأسدلوا حوله الستائر، وأطفأوا الشموع كلها تقريباً. اضطروا لطرق الباب عدة مرات ليُدخلوا العشاء. سرعان ما سقط في النوم ثانيةً، ما إن فرغ من تناول العشاء، حتّى راح في النوم إلى ظُهر اليوم التالي بوجه منبسط ومرتاح ولا مبالٍ كوجه جثة عمرها يوم واحد.
ـ «سيد محترم»، قالت الفتيات وهن يضحكن ويهمسن ويغنين ويقمن بأعمالهن في المطبخ والقبو. يغسلن أدوات المائدة، يمسحن الأطباق، يقطعن الخشب للمدفأة، يخدمن في البار، يتحدثن تارة وأصابعهن تواري أفواههن، ويضحكن تارة أخرى، في النهاية يهدأن ويُذعن الخبر بفضول ثم يضحكن: سيد محترم، نعم، سيد محترم من البندقية.
ظهر في المساء رجلان من شرطة التحرّي السرية اجتذبهما اسمه، ذلك الاسم المشين الذي لا سبيل لمقاومته، خَطر وفاتن، اسم يفوح بروائح المغامرات والهروب، اسم يجذب شرطة التحرّي السرية في أي بلدة يحل فيها. أرادا أن يعرفا كل شيء عنه:
ـ أهو نائم؟.. أليس لديه متاع؟
أجابهما صاحب الفندق:
ـ «خنجر، وصل وليس معه سوى خنجر».
ـ «خنجر»، كررا وهما يومئان برأسيهما بحماسة ومغالاة. سأل أحدهما: «خنجر من أي نوع؟»
ـ «خنجر بندقي» أجاب صاحب الفندق بأسى.
ـ ألحّا في السؤال: «لا شيء آخر؟»
ـ فقال صاحب الفندق: «لا شيء آخر، ليس معه سوى خنجر».
أدهشت تلك المعلومة التحرّيين. لم يكن ليدهشهما لو كان وصل حاملاً غنيمة: أحجارًا نفيسة، مُسكرات، قلادات، أو خواتم خلعها من أصابع نساء بريئات قابلهن في أسفاره. كانت سمعته تسبقه كرسول يُعلن عن اسمه. كان الأسقف قد بعث بالفعل صباح هذا اليوم برسالة لمأمور قسم الشرطة يطلب منه طرد الضيف صاحب السمعة المشينة بالقوة، وظلت حانات تيرول ولومباردي منذ الصباح، وحتى في المساء بعد العشاء، تعجّ بالحكايات عن هروبه.
قال التحرّيان وهما يهمسان في أذن صاحب الفندق ويكوّران أيديهما:
ـ «راقِبه، راقبه بحرص وسجّل كل كلمة يتفوه بها. يجب أن تأخذ حذرك منه جيداً. إن وصلته خطابات يجب أن تعرف مرسليها، وإن أرسلها هو يجب أن تعرف إلى من يرسلها. راقب كل حركة من حركاته! يبدو...أن لديه من يحميه. ليس بإمكان حتى قداسة الأسقف أن يلمسه».
ـ «حتى الآن»، أضاف صاحب الفندق بحكمة.
ـ «حتى الآن»، ردد التحريان السرّيان بوجوم.
غادرا على أطراف أصابعهما بوجهين كئيبين تثقلهما الهموم. جلس صاحب الفندق في الحانة وتنهّد. لم يكن يحب الضيوف سيئي السمعة ممن يثيرون شكوك الأسقف أو الشرطة. فكر في الضيف نفسه، في النيران والجذوات المتقدة التي تتراقص في عينيه الناعستين، فانتابه الخوف. تذكر الخنجر، الخنجر البندقي، متاع ضيفه الأوحد، فزاد خوفه. فكّر في الأخبار التي تلاحق خطواته فبدأ يسبّ في سرّه ثم زمجر صارخاً بغضب:
ـ «تيريزا!»
دخلت فتاة في ملابس النوم، في السادسة عشرة من عمرها، تحمل بإحدى يديها شمعة مشتعلة وبالأخرى تشد طرفي قميص نومها عند صدرها.
همس وهو يدعوها للجلوس على ركبتيه:
ـ «أصغي إلي يا تيريزا، أنا لا أثق في أحد غيرك، لدينا ضيوف خطرون، هذا السيد المحترم..».
ـ «من البندقية؟» سألت الفتاة بنبرة غنائية لتلميذة.
ـ «البندقية، نعم، البندقية»، تمتم بعصبية. «من السجن رأساً. حيث الفئران والمشنقة. اِسمعي تيريزا، سجلي كل كلمة من كلامه، اجعلي عينيكِ وأذنيكِ على ثقب مفتاح بابه طوال الوقت. بالطبع أنا أحبك كابنتي، لقد رعيتك كما لو كنتِ ابنتي، لكن إن دعاكِ لحجرته فلا تترددي. ادخلي. ستأخذين له الفطور. احترسي لنفسك وراقبيه».
ـ «سأفعل»، قالت الفتاة ثم نهضت لتذهب إلى حجرتها، برِقّة كظِل. توقفت عند الباب وتذمَّرت بصوت طفولي رفيع:
ـ «أنا خائفة».
ـ «أنا أيضاً»، قال صاحب الفندق ثم أضاف: «اذهبي للنوم الآن، لكن احضري لي قبل ذلك كأس نبيذ أحمر».
لكل هذا وذاك، لم ينم أحد منهم جميعاً جيداً في تلك الليلة الأولى.