كتاب " كازانوفا في بولزانو " ، تأليف ساندور ماراي ترجمه إلى العربية إيمان حرزالله ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب كازانوفا في بولزانو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كازانوفا في بولزانو
رجل
هكذا إذاً كيف هرب، وكيف انتشرت الأخبار، وكيف تذكروه في البندقية، لوقت على الأقل، فسرعان ما وجدت المدينة شيئاً آخر تقلق بشأنه ونسيت ابنها المارق. في منتصف موسم الكارنفال كان الجميع يتحدثون عن كونت شهير يُدعى الكونت ب، الذي وجدوا جثته فجراً تتدلَّى مشنوقة أمام منزل السفير الفرنسي، وكان يرتدي قناعاً وعباءة الدومينو. لأنه علينا ألا ننسى: البندقية مدينة قاسية.
لكن هو ينام الآن في بولزانو، في حجرة بفندق الستاج، خلف أبواب موصدة، ولأنها المرة الأولى له منذ ستة أشهر يأوي للنوم في فراش لائق وآمن ونظيف ومريح، فقد سلّم نفسه تماماً لعالم الأحلام السفلي المبارك. نام كالمصلوب، يستحمّ رأسه بالعرق، وذراعاه وساقاه مبسوطتان كنسر، مُولَّهٍ بالنوم، بلا أفكار، فقط ابتسامة ازدراء منهكة تطوف حول شفتيه، كأنه يعلم أنه تحت المراقبة من ثقب المفتاح.
وقد كان بالفعل تحت المراقبة: تيريزا على سبيل البدء، الفتاة التي يعتبرها صاحب الفندق كابنته، والتي تخدم في بيوت الأقارب البعيدين. كانت فتاة حسنة الخلق، وحسبما يراها الأقارب، لها طبع معتدل ووجه بشوش على سذاجة قليلة. كانوا يفضلون عدم الحديث عن هذا الأمر، ولم تكن تيريزا، قريبتهم الخادمة، تتحدث كثيراً هي الأخرى. كانوا يقولون إنها بسيطة من دون أن يعرفوا سبباً لقولهم هذا، لأن أحداً لم ينشغل بهذا كثيراً، وليس من سبب معقول حقاً ليشغل المرء نفسه بها، إذ لم تكن أهميتها في فندق الستاج بأكثر من أهمية البغلة البيضاء التي يشدونها كل صباح إلى السوق. كانت تيريزا بالنسبة لهم شيئاً ما كقريبة شبحية، شخص ما يمت بصلة بعيدة للجميع، لذلك لم يكن أحد ليعيرها اهتماماً، ولا حتى ليمنحها إكرامية. كانوا يرون «إنها بسيطة»، فكان مندوبو المبيعات الجوالون والجنود المقيمون مؤقتاً يقرصونها في وجنتيها وذراعيها في الأروقة المظلمة. مع ذلك كان ثمة قليل من رقّة في وجهها، وحِدّة في فمها ويديها الحمراوين من الغسيل، توحيان بنبل معين، وحول عينيها طيف لسؤال هادئ ومخلص على نحو يعجز المرء عن إجابته أو تجاهله. ولهذا كله، ولوجهها الذي يتخذ شكل قلب، وعينيها المتسائلتين، لم تكن شخصاً ذا أهمية، ومن العار أن تهدِر نَفساً عليها.
هي الآن راكعة على ركبتيها تراقب الرجل النائم من ثقب المفتاح، ولعل هذا هو ما يجعلنا نحن أنفسنا نهدر نفساً عليها. تغطي بيديها صدغيها لترى على نحو أفضل. ظهرها المائل وردفاها العفيّان منهمكان كلياً في المهمة: كأن جسدها كله قد التصق بثقب المفتاح. لم تكن ترى شيئا مهماً في الحقيقة؛ فقد رأت أشياء كثيرة للغاية من ثقب المفتاح: كانت قد خدمت في فندق الستاج لأربع سنوات، منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، وأبقت فمها مغلقاً وهي تحمل الفطور للغرف، وتعد الأسرة التي ينام عليها رجال ونساء غرباء، بعضهم وحدهم وبعضهم معاً. رأت الكثير ولم تتعجب لشيء. فقد فهمت أن الناس كما هم: تقضي النساء أوقاتاً طويلة أمام المرآة، والرجال ـ حتى الجنود ـ يرشون باروكاتهم بالبودرة، ويقلّمون أظافرهم ويلمّعونها، ثم ينخرون أو يضحكون أو يبكون أو يضربون الحائط بقبضاتهم، حتى إنهم يمسكون أحياناً بخطاب أو بقطعة ملابس ويُغرقون تلك الأشياء الجامدة بدموعهم. هكذا كان الناس وهم وحدهم في غرفهم بينما تراقبهم تيريزا من ثقب المفتاح. لكن هذا الرجل كان مختلفاً. هذا الرجل رقد نائماً بذراعين ممدودتين كأن أحدهم أرداهُ قتيلاً. وجهه جاد وقبيح. وجه ذكوري ليس به جمال أو رقّة، أنف ضخم ولحيم، وشفاه رفيعة وصارمة، وذقن حادة وقوية، والقامة كلها في إطار صغير ومكتنزة قليلاً، إذ كان قد زاد وزناً إثر البقاء في السجن ستة أشهر من دون هواء ولا تمارين. لا أفهم شيئاً من هذا كله، فكّرت تيريزا بينها وبين نفسها. كانت أفكارها بطيئة ومترددة وساذجة. الأمر يفوق الفهم، فكرت وأذناها محمرتان من الإثارة: ماذا ترى النساء فيه؟ ظل موضوع الحديث الوحيد طوال الليل في الحانة وطوال النهار في السوق، وفي كل مكان بالبلدة وفي المتاجر والحانات: كيف وصل في أسمال بلا نقود وبصحبة هذا الهارب الآخر، سكرتيره. الأفضل عدم ذكر اسمه حتى، لكنهم يذكرونه، ومراراً وتكراراً، يردد النساء والرجال اسمه لأنهم يريدون معرفة كل شيء عنه. كم عمره؟ أهو أشقر أم أسمر، كيف هو صوته؟ كانوا يتحدثون عنه كأنهم على وشك استقبال مطرب شهير أو رجل قوي، أو أحد الممثلين القديرين من هؤلاء الذين تم خصيهم ليغنوا أدواراً نسائية على المسرح. ما هو سرّه؟ تساءلت الفتاة وهي تدفع أنفها أكثر لصق الباب، وعيناها في ثقب المفتاح.
لم يكن الرجل النائم على الفراش بذراعين وساقين ممدوتين كالنسر، وسيماً. قارنته تيريزا بـجيسيبي الحلاق: جيسيبي وسيم بالطبع، وجنتان ورديتان، وشفتان ناعمتان وعينان زرقاوان كعيني فتاة. كثيراً ما يستدعونه إلى فندق الستاج، ودائماً ما يغمض عينيه ويحمرّ وجهه حين تخاطبه تيريزا. وربان السفينة البندقي الذي يقضي الصيف هنا: كان هو الآخر وسيماً بشعره المموج المدهون وشاربه المفتول في خيط رفيع، بحقيبته المدرسية اللطيفة وسيفه المصفّح، ويخبّ سيراً بحذاء برقبة عالية ويتحدث بلغة مبهمة تبدو غريبة تماماً لأذنيها، ووحشية. أخبرها أحدهم فيما بعد أن اللغة الوحشية التي يتحدث بها الربّان إما مجرية أو تركية، لا تتذكر. والأسقف، رجل وسيم هو الآخر. بشعره الأبيض ويديه المصفرّتين، والنطاق القرمزي حول خصره وغطاء رأسه الأرجواني الباهت. كان لديها تقدير جيدا للجمال الذكوري حسبما ظنّت. لكن هذا الرجل ليس جميلاً بالتأكيد، لا، بل إنه قبيح في الحقيقة، على النقيض تماماً من الرجال الآخرين الذين يروقون للنساء عادةً. بدت خطوط وجهه الغريب النائم ـ غير الحليق ـ قاسية، وترشح بالازدراء، ويؤكّد انطباعها الذي كوّنته ليلة البارحة، ضيق تشنّجات واختلاجات السخط على عضلات فمه. نخر فجأة أثناء نومه فقفزت تيريزا بعيداً عن الباب، جرت إلى النافذة، فتحت مصراعيها وأرسلت إشارة بمكنستها.