كتاب " كازانوفا في بولزانو " ، تأليف ساندور ماراي ترجمه إلى العربية إيمان حرزالله ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب كازانوفا في بولزانو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كازانوفا في بولزانو
استيقاظ
تراجعت النسوة نحو الحائط. أدار الرجل رأسه الأشعث جانباً وطرفت عيناه ـ كان جزء من شعره ملبداً إثر التصاقه بالوسادة ـ بدا كأنه عاد لتوِّه من حفلة رقص تنكرية أو مهرجان سفلي للأحلام، ظل يرقص فيه كالدرويش حتى جاءت الساحرات وسكبن عليه القطران ثم الريش ـ جال بنظرته الحادة في الغرفة والأثاث محركاً رأسه في هذا الاتجاه وذاك على مهل كأنما لديه كل الوقت في العالم، أو كأنه يعلم أن كل شيء سيان في الأهمية، لأن شعورنا نحو الأشياء فقط ما يجعلها تبدو مختلفة. حين رأى النسوة، فرك عينيه الزجاجيتين نصف المغمضتين، وقف لوهلة هكذا بعينين مغمضتين، ثم، وبرأس لم يزل مائلاً جانباً، نظر لهن بكبرياء وتمعّن، كسيد ينظر لخدمه، سيد حقيقي ممن لا يعتبرون خدمهم مجرد مخلوقات ضالة فقط لأنهم أسيادهم وهم خدمهم، بل يعاملونهم كأشخاص اختاروا بكامل إرادتهم القيام بدور الخدم، ثم رفع رأسه فطالت قامته قليلاً، وبحركة خشنة من ذراعيه القصيرتين ويديه الصفراوين النحيلتين، رفع قميص نومه الذي انزلق عن كتفه الأيسر، كانت حركة فخمة ومسرحية، وشعرت النسوة بذلك وصرن كمن تحررن من تعويذة ظلت تشل حركتهن حتى تلك اللحظة، فقد نمّت هذه الحركة عن أن الرجل ليس واثقاً من نفسه تماماً كما بدا لهن لأول وهلة، وأنه فقط يختال، ويقلد ذوي المكانة والنفوذ؛ لذلك استرخين وأخذن يسعلن ويتنحنحن دون أن تنبس واحدة منهن بشيء. وقفوا هكذا لوقت طويل، صامتات، ساكنات، يلتقطن نظرات بعضهم بعضًا.
لكن الرجل بدأ يضحك بسهولة وارتياح كأنه يعطس. ضحك بعينيه بهدوء أكثر مما ضحك بفمه، اتسعت عيناه وملؤهما ضوء كأنهما نافذة انفتحت على مصراعيها فجأة في غرفة مظلمة. ضوء خفيف الظل وفظّ وطاغٍ وماجن وسرّي مع ذلك، ضوء لمس النسوة اللائي، بدورهن، لم يضحكن، ولم يصحن «أها»، ولا صيحة الدهشة «أوه»، أو يقهقهن «تييي هييي»، بل أصغين له وراقبنه بحذر. أشاحت لوتشيا ببصرها بعيداً قليلاً، تطلعت بنظرها للسقف كأنها تنتظر المساعدة من هناك، وبصمت، ومن تحت تنفّسها، زمجرت «ماما ميا»، وضمّت نانيت راحتيها كأنها تصلي. لم يقل الرجل شيئا لكنه واصل الضحك. ظهرت أسنانه الآن، مُصفرّة ومفلطحة قليلاً، أحد مكوّنات بِنية ضخمة وقوية، كمجموعة أنياب وحشية لم يصبها ضرر. ضحكت الآن عيناه وفمه وأسنانه ووجهه كله، بهدوء ومزاج رائق ومسترخٍ وواعٍ، كأن لا شيء أمتع وأفضل من هذا المشهد، هنا في بولزانو، في غرفة فندق الستاج، عند الظهيرة، في مواجهة ثلة من النسوة المشدوهات تسللن ليشاهدنه وهو يستيقظ فقط ليتسنّى لهن النميمة عنه فيما بعد في البلدة وحول الآبار المحلية. اهتزّ جذعه من الضحك فوضع يديه أعلى ردفيه ومال للوراء ليضحك بشكل أفضل. كان كأن شعوراً قد ظل حبيساً داخل جسده لوقت طويل قد تفجّر لفيضانات ساخنة في جسده، شعور لم يكن عميقاً ولا صارخاً ولا مأساوياً، ساخن وممتع فقط، كالشعور بأنك على قيد الحياة. بدأ الضحك يحشرج حنجرته، متخذاً صوتاً متشققاً إذ يتعثر متقدماً، ثم تدفق فجأة كما تتدفق أغنية شعبية ماجنة من فم مطرب وقف لثوانٍ عديدة؛ يداه أعلى ردفيه ومائلاً للوراء يضحك بصوت عالٍ.
كان ضحكه كوابلٍ من دفقات صخب، كاسحة ومدرّة للدموع وموجعة للخاصرتين، غمر الحجرة ووصل إلى الرواق وعَبَرَ الردهة. ضحك كمن خطرت له فكرة للتوّ، كمن فهم لتوّه ما حدث، كأن حدود الخيانة البشرية وعمقها، اللامتناهيين حقاً، قد أثاراه لحد الضحك. ضحك كمن استيقظ من كابوس وتذكر أين هو، كمن رأى الأشياء بوضوح ولم يعد يرضى بالظلال المجردة لأيٍّ ما كان يجده مخيفاً أو مضحكاً. ضحك كأنه يعدّ لمقلب هائل وذكي سيجعل أنفاس العالم تنبهر. ضحك كبالغ، بملء فمه، وبعواء ذئبي غريب، كأنه على وشك أن يرش النسوة ببودرة عفريت، أو كأنما سيرشّها على قمصان نوم شخص عظيم وقوي ومهيب. ضحك كمن سيؤدي رقصة رائعة سيتمايل معها العالم، كمن بإمكانه، على سبيل الفكاهة فقط، تفجير الأرض ذاتها ليجعلها هباءً منثوراً. ضحك ويداه أعلى ردفيه، وكرشه يهتز، وصدره يعلو ويهبط، ورأسه مائل لأحد الجانبين، ضحكة خشنة وطويلة وعالية، حتى اختنق الضحك وتحوّل إلى سعال، بسبب نوبة البرد التي أصابته أثناء سفره، وجو المرتفعات ـ هواء الجبال وتأثيرات طقس نوفمبر ـ القاسي على بنيته، فبدأ وجهه يتلوّى ألماً وينحبس فيه الدم.
حين زالت التشنجات، بدا أن حسه بالفكاهة قد غادره وتملّكه غضب عارم.