You are here

قراءة كتاب كازانوفا في بولزانو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كازانوفا في بولزانو

كازانوفا في بولزانو

كتاب " كازانوفا في بولزانو " ، تأليف ساندور ماراي ترجمه إلى العربية إيمان حرزالله ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 9

ـ «أرى أن لديّ زائرات»، تمتم من بين أسنانه بصوت أجش وجهير، ثم أضاف وهو يعقد ذراعيه أمام صدره: «ياله من شرف، سيداتي العزيزات!»، وانحنى بشدة وفخامة وشد ذراعيه وقدميه في محاكاة تهكّمية للمجاملات، كأنه أمام نسوة البلاط الفرنسي في إحدى قاعات قصر الفرساي ذات صباح جميل والملك ذو الكرش السمين والوجه القرمزي مايزال نائماً، أو كأنه يتسكع مع العاطلين والمتزلّفين ويتدرّب معهم على آداب السلوك. كرر مستهزئاً:
ـ «ياله من شرف لسيد محترم عابر سبيل مثلي! لهارب فرّ لتوّه من جحيم سجن رطب موبوء بالفئران، ظل فيه لأكثر من عام ونصف من دون أن يرى وجهاً ودوداً ولا تعبيراً رقيقاً واحداً! ياله من شرف، وياله من امتياز!» ثم هدأ على نحو ما مُنذر.
شعرت النسوة بالتهديد في نبرة صوته واقتربن من بعضهن كدجاجات في مواجهة عاصفة، ثم رحن يتراجعن ببطء نحو الباب. تحسست لوتشيا الطريق إلى الباب بنصفها السفلي إذ كان الرجل يتقدّم نحوهن ببطء، متوقفاً بعد كل خطوة، قائلاً:
ـ «إلى من أدين بهذا الحظ الحَسَن؟»، ثم أردف بصوت متهدّج وعالٍ: «إلى من أدين بهذا الحظ الحسن الذي أتى بجميلات بولزانو لحجرتي وقت استيقاظي؟ ما الذي جعل سيدات بولزانو يزرنني أنا الهارب المنفي المنبوذ من المجتمع، الذي يطاردني الجميع الآن، من شرطة الكلاب وقطعان الذئاب على الحدود حتى مرتزقة محاكم التفتيش بحرابهم في أيديهم بين الأجمات وفي الغابات؟ ألا تخشين أن يكون الهارب المسكين في مزاج سيِّئ، في هذا الوقت تحديداً، في الصباح التالي لأول ليلة له ينام فيها على فراش صالح للاستخدام الآدمي، ليس به قشّة واحدة لها رائحة براز الكلاب؟ ألا تخشين منه الآن وقد استيقظ وبدأ يتذكر؟ ما الذي تريده جميلات بولزانو مني؟» سأل بصوت أعلى مشحون بالغضب.
انتصب في وقفته بحركة واحدة عنيفة فبدا لوهلة أكثر وسامة. كان وجهه يشعّ غضباً، كمساحة خالية يضيؤها برق. «من أنا، رغم كل شيء، لتتسلل سيدات بولزانو لغرفتي في حين أتيت أتوسّل كرم الضيافة في مبيت المتشردين المؤقّت هذا؟»
كان جلياً أنه يستمتع بإلقاء خطابه، بجزع النسوة، وبالامتياز الذي يمنحه له الموقف. أخذت ثقته بنفسه تزداد. صار الآن يتلاعب بهن كما يتلاعب مبارز بخصم أقل منه مهارة، فكانت كلماته وهو يدنو منهن مع كل خطوة كحفيف نصل السيف في الهواء. «جميلات بولزانو! أنتِ أيتها السمراء المتكبّرة، نعم أنتِ! أنتِ يا صاحبة المظهر العفيف بمسبحتك على عباءتك! وأنتِ يا ذات الصدر الرحب هناك في الركن! وأنتِ أيتها العجوز! إلام تنظرن جميعكن بهذا الفضول؟ قد يصل البلدة من يأكل النار أو يبلع السيوف طالباً انتباهكن لكنكن تتسللن لتختلسن النظر لمخلوق وحشي مسكين مثلي! هذا ليس قفصاً في سيرك جوّال سيداتي. المخلوق الوحشي استيقظ، وهو جوعان!»
ضحك ثانيةً، بمرارة هذه المرة ومزاج سيِّئ. ثم سأل بازدراء حقيقي:
ـ «من أين جئتن؟ من السوق؟ من الفندق؟ هل انتشر الحديث عني في البلدة فعلاً: هل يجوب الجواسيس بآذانهم المتوجّسة؟ هل يتحدثون عني في الصالونات وكبائن المسرح كما تفعلن أنتنَّ في السوق على ما أظن. يقولون إنه هنا، إنه وصل، يالها من تسلية! ياللشرف الذي تمنحونيه!» كرر بلامبالاة وأسى قليلاً. «ها أنا ذا إذاً. اِنظرن إليّ! هكذا أبدو! هكذا أبدو حقاً، وليس كما أبدو في المساء، بباروكة ومعطف أرجواني وسيف يتدلى من جانبي وخواتم في أصابعي. هكذا أبدو، ليس بأكثر وسامة ونصوعاً، ولا بأصغر سناً ولو بيوم! هل أروقكن؟ هل أفتنكن؟ هل مظهري يطابق مع ما يُقال عني؟ ماذا تتوقعن مني؟ لماذا لا نهرب جميعاً نحن الستة؟ نقفز في عربة بريد وننطلق لنرى العالم؟ ألست جياكومو العاشق الرحّالة؟ خادم الجميع والمحتال على الجميع؟ في خدمة جلالتكن، متى تَشَأْنَ وأينما تَشَأْنَ. اُغرُبن عن وجهي أيتها الدجاجات، اختفين من هنا!» صرخ بصوت مخيف ولمع في عينيه السوداوين الداكنتين ضوء أخضر طفيف ـ كما حكت لوتشيا لزوجها فيما بعد ذات ليلة على فراش الزوجية وهي تعترف له بكل شيء وتبكي وترتجف ـ «سجين لمدة ستة عشر شهراً باسم الفضيلة والأخلاق! هل لديكن أي فكرة عما يعنيه هذا؟ ستة عشر شهراً، أربعمئة وثمانية وثمانون يوماً وليلة على فراش من القش تفوح منه رائحة نتن البؤس البشري، فريسة للبراغيث والقمل، في صحبة الفئران. ستة عشر شهراً، أربعمئة وثمانية وثمانون يوماً في الظلام، بلا ضوء شمس أو حتى مصباح حقيقي، أعيش كآكل الحشرات أو كفأر، وحدي مع شبابي، مع طموح الرجولة ورغباتها، وحدي مع ذكرياتي، ذكريات الحياة التي عشتها، ذكريات عن الاستيقاظ على الشروق وحلاوة الإيواء إلى النوم في فراش. وحدي، معزولاً عن العالم باسم الفضيلة والأخلاق اللتين يعتبرونني، أنا، عدوّهما اللدود ـ على الأقل حسبما قال القاضي الأكبر بعد القبض عليّ. أربعمئة وثمانية وثمانون يوماً مسروقة من الحياة. حياتي، مَمحاة منها، أربعمئة وثمان وثمانون ليلة كان الآخرون يرون فيها ضوء القمر والبحر في المرفأ، ووجوه تُضيئُها المصابيح، ووجوه النساء حين ينطفئ المصباح ولا يتبقّى سوى ضوء عيون العشاق!» عند هذه النقطة أحنقه خطابه ورفع صوته وتحدث بصوت عالٍ للغاية، كشخص سكت أمداً طويلاً. «لماذا تتراجعن عني؟» زعق وهو يرفع ذراعيه للأمام. «ألست هنا! لقد جئت! أنتِ أيتها الجدة، لماذا ترتعدين عند الباب، وأنتِ يا ذات العينين البُنِّيَّتين، أيُّها المخلوق المزهوّ السخيف لماذا لا تقتربين؟ أترين؟ هذه الذراع التي أحاطت بخصور نساء كثيرات، هاتان اليدان اللتان تُقتنّ طويلاً لرؤيتها، ألا تخفن منهما... بإمكانهما التلويح بالسيف وتفنيط ورق اللعب والمداعبة أيضاً. أنتِ، أنتِ أيتها الشقراء الرقيقة كالنُفشْة(4) هل تعرفين أن هذه الأصابع يمكنها أن تميّز البستوني من الإسباتي في الظلام كما يمكنها دغدغة خيالك حتى تصرخين من لمستها، وفيما بعد، حين تقع أسنانك، يمكنك أن تحكي لأحفادك وأنت تلثغين عن أيام كانت تلك الأصابع تحيط بعنقك! سيدات بولزانو! انطلقن في البلدة وأعلنّ أني هنا، أني وصلت، العرض على وشك أن يبدأ! إنه هنا، المتأنق، سلوان النساء، شافي القلوب الجريحة بأكاسيره السريّة الغامضة لعلاج آلام القلب. من يملك وصفة الطعام التي تجعل العاشق البارد فحلاً ممتعاً في الفراش بين ليلة وضحاها! أخبروهم كيف اقتحمتن ورأيتنّ بأعينكن وأنكنّ تشهَدْن أني هنا حقاً ولم يذهب عمري في السجن سدى. اشهدن أنكن رأيتن هذه الذراع وهذا القلب وهذين الكتفين، وكل شيء آخر، كل ما هو حاضر وحقيقي، كل شيء كما ينبغي! أَذِعْنَ صيتي يا سيداتي، وأخبرن أزواجكنّ في لحظة حميمة مناسبة، وأنتن تحللن أحزمتكن مثلاً لتدعن تنانيركن تسقط عنكن، أن جياكومو، الرجل الذي أرسلوه إلى السجن والظلام والعالم السفلي باسم الفضيلة والأخلاق، قد وصل، وأنه الآن مخلوق فاضل وأخلاقي حقاً ويسألكم صفحكم ودعمكم. توسلن الرحمة لي يا سيداتي العزيزات، واستغثن بهؤلاء القادرين الفاضلين، هؤلاء الذين من الواضح أنهم معصومون من الخطأ لحد أنهم يجرءون عليّ، بل وبمقدورهم، الحكم على المذنبين! لأنني لست سوى مذنب. اِذهبن إذاً وأعلنّ توبة جياكومو عن ذنوبه. أنا مذنب لأنني أعلم كل ما هنالك عن الرجال والنساء، ولأنني مشهور باحترامي للحياة ولكل ما تأتي به! اِذهبن وأذِعنَ خبر وصولي».

Pages