كتاب " كازانوفا في بولزانو " ، تأليف ساندور ماراي ترجمه إلى العربية إيمان حرزالله ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب كازانوفا في بولزانو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كازانوفا في بولزانو
هكذا فكّرن، ثم بدأن يقهقهن، ثم أخذت كل واحدة منهن دورها في القرفصة والنظر من ثقب المفتاح، واجتاحتهن سعادة مجهولة تجاه الأمر كله. في عالم مثالي، كن سيحضّرن بعض القهوة الجيدة ويجلسن حول المائدة ذات الأرجل المطلية، وأكواب القهوة في حجورهن، ينتظرن استيقاظ السيد المحترم الأجنبي بمرح ومجون رقيقين. تسارعت دقات قلوبهن. شعرن بالفخر لرؤيتهن الغريب ولوجود شيء ما يتحدثن عنه في البلدة وفي السوق وحول البئر وفي المنزل. كن فخورات رغم قلق طفيف، خاصة الأرملة نانيت ولوتشيا الفضولية، حتى جريتل المتكبّرة المتجهّمة قليلاً، كانت عصبية كأن ثمة شيء ما إعجازي أو خارق للعادة في وصول رجل إلى البلدة. كن يعلمن أن شيئاً ما أحمق وغير منطقي في فضولهن العابث المبالغ فيه، لكنهن يشعرن في الوقت نفسه أن فضولهن غير اللائق هذا لا يقارن بتاتاً بتلك الإثارة الكاملة. كان الأمر كما لو كنّ قد شاهدن أخيراً رجلاً حقيقياً، بغض النظر عن كون ذلك من ثقب مفتاح، وأن كل من عرفوهم من قبل من أزواج وعشاق ورجال غرباء، قد خضعوا على نحو ما لإعادة تقييم في اللحظة التي رأين فيها المخلوق النائم. كان الأمر كأنهن على غير العادة بالمرة، وعلى نحو يدعو للدهشة، يرين رجلاً قبيحاً أكثر منه وسيماً، ملامحه غير مشذبة، جسده ليس بطولياً، لا يعرفن عنه شيئاً سوى أنه ماجن، ممن يترددون كثيراً على الفنادق وأوكار القمار، وأنه بلا متاع، وأن ثمة شيئاً ما مُريباً حتى في اسمه، كأنه ليس اسمه حقاً، أو ليس بشكل كامل، رجل يقال عنه إنه زير نساء، جريء، ماجن، ويستريح لصحبة النساء: كما لو أن هذا، رغم كل المظاهر، شيء غير عادي. كنّ نساء: شعرن بشيء ما. بدا لهن أن مواجهتهن تلك مع الغريب الغامض قد بيّنت كل الرجال الذين عرفوهم من قبل بألوانهم الحقيقية.
ـ «رجل». همست لوتشيا بوهن وقلق وخشوع، فشعرن بالخبر يحلّق بأجنحته فوق سوق بولزانو ويطير إلى حجرات الرسم بترّينتي، والكبائن الخضراء في المسرح، وسقيفات الاعتراف، فتنبئ دقّات قلوبهن المتسارعة الجميع أنه في طريقه إليهم. أن في هذه اللحظة استيقظ رجل، وتمطّى، في غرفة بفندق الستاج في بولزانو.
«هل يمكن أن يصبح رجل ظاهرة خارقة للعادة هكذا؟» تساءلت نسوة بولزانو في أعماق قلوبهن. بالطبع لم يقلن شيئاً من هذا، بل شعرن به. فأجابت دقّة قلب واحدة، دقّة قلب واحدة عصيّة على الفهم: «نعم، وأكثر من هذا».
يحب الرجال ـ أو هكذا خبّرتهن دقات قلوبهن في تلك اللحظة على نحو ما غامض ـ آباء وأزواج وعُشَّاق أن يتصرفوا بطريقة رجولية: يصلصلون بسيوفهم كالفرسان ويتفاخرون بألقابهم ومكاناتهم وثرواتهم، ويطاردون أي تنورة تقع عليها أعينهم. كانت هذه هي طريقة الرجال في بولزانو وأماكن أخرى غيرها، إن شئنا تصديق كل ما يُحكى. لكن سمعة هذا الرجل مختلفة. يحب الرجال أن يتصرفوا بتعالٍ وتفاخر، فيتبجّحون أحياناً بغرور، بسخافة الديوك الرومي، بالرغم من أن أغلبهم من وراء هذا القناع صبية مغمومون: هذا بسيط، هذا طماع، هذا ممل وذاك متبلّد الشعور. شعرت النسوة أن ما قالته لوتشيا حقيقي: ها هو رجل أصيل، رجل حقاً، رجل فقط ولا شيء آخر، كما تكون شجرة البلوط شجرة بلوط ويكون الصخر ببساطة صخراً. أدركن هذا ونظرت إحداهن للأخرى بعيون مشدوهة وأفواه فاغرة وأذهان مضطربة. أدركن هذا لأن لوتشيا قالته؛ ولأنهن شهدنه بأعينهن؛ ومن التوتر الذي ساد الغرفة والفندق والبلدة بأسرها، ومن الإثارة المنبعثة من هذا الغريب. باختصار، أدركن أن الرجل الأصيل يعدّ ظاهرة خارقة تماماً مثل المرأة الأصيلة. رجل لا يحاول إثبات شيء برفع صوته أو صلصلة سيفه، رجل لا يصيح، لا يطلب شيئاً ما لم يمنحه هو نفسه، لا يسعى لترف صداقة النساء أو أمومتهن، لا يرغب في الاختباء في عناق أو خلف تنورة امرأة، رجل لا يعنيه سوى البيع والشراء، بلا عجلة ولا طمع، لأن كل ذرة في كيانه، كل عصب من أعصابه، كل خلجة من خلجات روحه، وكل عضلة من عضلات جسده، مكرّسة لقوة الحياة. هذا النوع من الرجال من أندر المخلوقات حقاً. هناك رجال أبناء أمهاتهن ورجال بأيدٍ ناعمة، ورجال متبجّحون صاخبون يتوددون للنساء بفظاظة، وبذيئون وساذجون ومتهافتون ـ لم يكن واحد منهم رجلاً حقاً كهذا. وهناك الوسيمون الذين لا يعنيهم النساء بقدر ما يعنيهم جمالهم ونجاحهم. والقساة الذين يتربّصون بالنساء كما لو كنّ أعداء لهم، بابتسامات بلزوجة العسل وسكاكين مخفيّة تحت عباءات واسعة ورحبة تكفي لإخفاء خنزير. ثم، ومن حين لآخر، فقط من حين لآخر، هناك رجل فقط. الآن فهمن صيته الذي يسبقه والقلق الذي عصف بالبلدة، ففركن أعينهن، تنهدن، أطلقن أنفاساً لاهثة وبطيئة، وارتفعت أيديهن وحطت على صدورهن. ثم صرخت لوتشيا، وتراجعن كلهن عن الباب الأبيض الكبير الذي انفتح ولاحت خلفه قامة الغريب: قصير، أشعث، غير حليق، متيبس قليلاً، تطرف عيناه قليلاً من الضوء القوي، وجسده كله مائل للأمام كأنه مرهق لكنه مع ذلك على وشك الانقضاض.