كتاب " الإعلام ليس تواصلا " ، تأليف دومينيك وولتون ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب الإعلام ليس تواصلا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الإعلام ليس تواصلا
إن التواصل ثمرة للعبة معقدة بين ثلاثة أطراف. والمتلقّي لا يمكننا أن نعتبره بأنه دائماً على حقّ لا ليس على الإطلاق، وإلّا نكون قد وقعنا تحت قبضة استبداده، ولكنه يجبر على الانتقال من فكرة النقل (للمادة الإعلامية) إلى فكرة التفاوض بشأنها. بالأمس كان التواصل يعني النقل أو التحويل لأن العلاقات الإنسانية غالباً ما كانت تراتبية. أما اليوم فإنه يعني في معظم الأحيان التفاوض لأن الأفراد والجماعات باتوا أكثر في وضعية مساواة. إن مفهوم التفاوض ينتمي، على كلٍ، إلى الثقافة الديمقراطية، لأنه، أي التفاوض منتفٍ في مجتمع استبدادي أو شمولي. وإذا أمعنّا النظر في واقعنا، نكتشف أن كلّاً منا يقضي وقته اليوم في التفاوض، أكان ذلك ضمن العلاقة الزوجية، أم العائلة أم المدرسة أم المؤسسة أم المجتمع أم أوروبا أم العالم... وهكذا فإن الأمور المفروضة تسير في اتجاه تراجعي لتحل محلها، في كثير من الأحيان، الأمور المتفاوض عليها؛ فالأفراد ينزعون إلى التفاوض والنقد كلما كان الإعلام في متناولهم.
في وسعي، هنا، تلخيص المراحل الخمس للرسم البياني الذي يشرح نظرية التواصل التي أذود عنها،والتي تعني التواصل الإنساني بمقدار ما تعني التواصل عبر الوسائط التقنية.
أولاً: التواصل ملازم لقدر الإنسان. تنتفي الحياة الخاصة والجماعية بانتفاء إرادة التحدث والتواصل والتبادل على مستوى الفرد أو الجماعة، فإنْ نعيش يعني أن نتواصل. ثانياً: يود الإنسان التواصل لأسباب ثلاثة هي: التقاسم، الإقناع والإغراء. وفي أكثر الأحيان للأسباب الثلاثة مجتمعة، حتى لو لم يتم زعم ذلك. ثالثاً: يتعثر التواصل بعدم التواصل، إذ قد يكون المتلقي ليس على الخط، أو غير موافق. رابعاً: تنفتح مرحلة تفاوض حيث يتفاوض الفرقاء بحرية ومساواة تقريباً من أجل الوصول إلى نقطة اتفاق. خامساً: عندما تكون النتيجة إيجابية فإنها تسمى تعايشاً، مع ما يتصف به التعايش من نقاط قوة ونقاط ضعف. التفاوض والتعايش باعتبارهما إجراءين لتلافي عدم التواصل وعواقبه العدوانية في غالب الأحيان.
***
تستند نظرية التواصل هذه، المتواضعة في الظاهر، إلى فرضية تقول بأن ليس من فرد ولا مجتمع بقادر على الإفلات من التواصل، وبأن لهذه الفرضية خمس تبعات أو نتائج. إن أفق التواصل هو، في غالب الأحيان، عدم التواصل الجلي خصوصاً في الانقطاع بين الإعلام والتواصل؛ استحالة اقتصار التواصل على الكفاءة التقنية؛ إلزامية التفاوض بين الشركاء، وأفق التعايش. إن عدم التواصل البنيوي هذا يفرض، بالطبع، المساواة بين الأفرقاء وإلّا انتفى التفاوض، مما يجعل التواصل المعاصر واقعاً لا تنفصل عراه عن الثقافة الديمقراطية باعتباره عملية أوسع بكثير من مجرد التعبير. إذاً لا تواصل من دون حد أدنى من الوقت، والاحترام والثقة المتبادلة، الأمر الذي يجعل من التسامح أحد الشروط البنيوية لكل عملية تواصل. أخيراً إن كل نظرية، في هذا الخصوص، تحمل في طياتها رؤية للمجتمع وللعلاقات الاجتماعية تبعاً لتقبلنا، إلى هذا الحد أو ذاك، واحداً من النموذجين المساواتي أو التراتبي. والتصور الذي نتبناه هنا، هو تصور إنساني النزعة قبل أن يكون تقنياً، مما يجعل من التبادل أفق
كل تجربة إنسانية واجتماعية. إنه تصور سياسي أيضاً بالمعنى الذي يُعطى فيه الأفضلية للتفاوض من أجل إرساء تسوية.
***
في نهاية المطاف ثمة تصوران متعارضان للتواصل. الأول، وهو المسيطر على نطاق واسع، يركز على الكفاءة التقنية كعلامة على تقدم الاتصالات ضمن نوع من السلسلة المستمرة، مع امتدادها لصالح الصناعات التي تمثل اليوم القطاع الأكثر توسعاً في العالم. أما التصور الثاني فأقلّي، وهو ما أتبناه، وينطلق من البعد الأنثروبولوجي للتواصل، ويعطي الأفضلية للعمليات السياسية الواجب تطبيقها تلافياً لأن يصبح أفق عدم التواصل بين الأفراد والشعوب، مصدراً لنزاعات فيما بينهم. إنهما تصوران لا يتمتعان بالعلاقة نفسها بالإنسان وبالتقنية.
***
هذا هو النموذج النظري الذي تنتظم بموجبه أبحاثي الميدانية منذ عدة سنوات في الميادين الخمسة التالية: العلاقات بين العلوم والتقنيات؛ وسائط الإعلام الجماهيرية والإنترنت؛ الفضاء العمومي والتواصل السياسي؛ العولمة والتنوع الثقافي وأوروبا؛ العلاقات بين العلوم ونظريات المعرفة والتواصل.