You are here

قراءة كتاب الإعلام ليس تواصلا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإعلام ليس تواصلا

الإعلام ليس تواصلا

كتاب " الإعلام ليس تواصلا " ، تأليف دومينيك وولتون ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

ماذا عن تقنيات التواصل؟ إنها تعني التواصل من دون عدم التواصل. إنها تنشئ، مجدداً، مجموعة اتصالية بين الإعلام والتواصل حيث يسجل التواصل الإنساني فشلاً في غالب الأحيان. وإنها تنتمي إلى إيديولوجيا للنقل أو التحويل، تخلط بين سرعة الأدوات وكفاءتها، وتقلّب التواصل الإنساني وتعقيده. إن إعادة التفكير في العلاقات بين الإعلام والتواصل يعني بداية تخليص مسألة التواصل من قبضة التقنية، والتذكير بأن هذه الأخيرة، وإنْ كانت تيسّر، بلا شك، التواصل الإنساني، إلّا أنها لم تكن كافية، ولم تعد كافية؛ فنظرة إلى قرن مضى تؤكد ذلك. إن التوسيط الإعلامي والنقل الإعلامي والتفاعل ليست بالضرورة مرادفة للتواصل. نعم، لقد حققت التقنيات تقدماً هائلاً سمح بتحسين بعض التواصلات الاجتماعية، غير أنها ليست كافية لحل التناقضات الوجودية للتواصل الإنساني، وإلّا سرنا في هذه الحالة نحو حالات "التوحد التفاعلي".

فهل من مؤشر على إدماننا على تقنيات الاتصال؟ فلنراقب حالتنا النفسية عندما ننفصل عن حاسوبنا و/أو عن هاتفنا الجوال لأكثر من يومين. لا يمكن تصور ذلك... وكثيرون منا سيصاب بإعياء في مثل هذه الحالة. إن هذا الإدمان يفوق ببلاغته كل الخطابات. ولكن كيف كنا نتصرف قبل ذلك، منذ أقل من ثلاثين سنة؟ وماذا عن المليارات الثلاثة ممن لا يحوزون على تلك التقنيات؟ وما قيمة هذا العالم في المباشر أو تزامناً، عندما يكون الجوع هو حال ما ينوف على المليار إنسان؟ إنها لمفارقة بالغة، لا سيما أن هذه التبعية تمثل قبولاً منا أيضاً بالقابلية لتعقب الأثر traçabilité بينما كان انعتاقنا قائماً طيلة قرون على التخلص من كل تبعية خارجية (دينية، سياسية...). لقد أسهمت تقنيات الاتصال في هذه الحركة التحررية وأصبح الفرد، في اللحظة التي صار فيها حراً مستقلاً عن أي سلطة، خاضعاً، إرادياً، لتقنيات الاتصال التي مكّنته في السابق من الانعتاق. كثيرة هي إذاً "العبوديات الإرادية". إن الصلة التاريخية بين الانعتاق وتقنيات الاتصال هي من القوة بمكان لم تعد فيها الغالبية العظمى من "المستخدِمين" (بكسر الدال) ترى، حالياً، حالة الإدمان الجديدة التي بتنا مصابين بها، ولم يكن هناك سوى خطوة واحدة فاصلة بين أداة كانت في خدمة الانعتاق وأداة أصبحت تخدم القابلية لتعقب الأثر، فها هي قد اجتيزت في غضون جيل واحد، دونما ردّ فعل حتى الآن.... لقد التهمت التقنية أبناءها، سيما وأن ما نؤْثره في هذه التقنية هي السرعة والكفاءات والتفاعلية ومشاعر الحرية التي تتولد عنها، وكلها بعيدة كل البعد عن إدراك ما تكتنفه من إدمان...

التفاعلية، هي هذا اللفظ السحري الذي يرمز إلى مزيج من الحرية والذكاء بحيث أنّ الإدمان قد بلغ مبلغاً بتنا فيه نعرف الحرية بمقدار ما يتاح لنا تعدد خطوط الاتصال، غير أن الإنترنت ليس سوى شبكة، فإذاً شرك، أي عكس الحرية التي يرمز إليها. لذلك، لا يرى المرء، حتى الآن، في الإنترنت سوى الحرية، وليس التحكم، وشبه ضمانة للحرية الفردية، وفرصة للانعتاق والتنقل. ومع ظهور الإيديولوجيا التقنية انتقلنا إلى الجهة الأخرى من المرآة حيث كل شيء يتخذ الطابع الفردي خالياً من إشكالية جماعية. لقد تحول مبدأ "استطيع فعل أي شيء كما أشاء"، إلى مبدأ "الحرية الرقمية"، المضمون بـ "الوصول الحر" والمضخم بـ "التفاعلية المعممة". وهذا التحول لا يزال حديث العهد، وإن كانت هناك نقاط مشتركة كثيرة مع الآمال الجسام التي جرى تعليقها على ظهور التلفزة السلكية لخمسين سنة خلت، وكذلك على الراديو في ثلاثينيات القرن الماضي.

من جهة أخرى، يمكن ملاحظة الإيديولوجيا التقنية في نسيان أو غياب الثورات التقنية السابقة: الامتناع الدائم عن المقارنة والظن أن كل شيء يبدأ اليوم حيث لا تاريخ ولا نزعة مقارنة، بل إنها وضعية لا تحتمل أي نقد وتتطلب الولاء الكلّي لأنه مع ظهور الإيديولوجيا التقنية، كما بقية الإيديولوجيات، لم يعد ثمة من خيار، فإما الكل أو لا شيء، وكل نقد هو بمثابة رهاب تقني ونزعة محافظة. ومن الأمثلة على ذلك انتقاد الأطفال لقضائهم ساعات طويلة أمام التلفاز المشتبه دائماً بأنه يولد الاغتراب، ولكن لا يقال شيء عن جلوس الساعات نفسها أمام الحاسوب، لا بل يكاد العكس أن يكون صحيحاً إذ يُرى في هذا السلوك علامة على نوع من الذكاء والانفتاح الذهني، حتى أن بعضهم بات يحلم بأن يصبح في إمكان الأطفال، في مرحلة الحضانة، أن يستعملوا تلك الأدوات. لماذا لا نحفظ مزيداً من المسافة حيال الأمور؟ لماذا لا تزال الأزمات والأخطار غير مدركة كفاية؟

لقد أعطى القرن التاسع عشر وكذلك القرن العشرون مساحات واسعة وكبيرة سواء بالنسبة إلى حرية الإعلام أم الاتصال أم التقنية، وكان القرن العِشرون قرن الخلط بين التقدم التقني وتقدم الاتصالات، ومن المرجح أنَّ التمكن من الفصل، أو القطع بين العجائب التقنية وتناقضات التواصل سيحصل في مطلع القرن الواحد والعشرين بحيث أنَّ تقنيات الاتصال لا تزال ترافق حركات الانعتاق إلى اليوم، ومع أنَّ الإشكالية قد تغيّرت اليوم، ولكن أن المرء لا أحد يريد أن يرى ذلك. فالذين يعانون أكثر من الادمان لا يتحدثون عن الإنترنت إلّا كـ "تقنية"، وفي الوقت نفسه يجعلون منها الأداة التي سـ "تثوّر" و"تحرر" العلاقات الإنسانية والاجتماعية. ثمة في ذلك ضرب من الابتذال والمبالغة في التقييم في آن، وبالنتيجة هناك نوع من الطوبيا- الإيديولوجيا تحل محل الإيديولوجيات السياسية الواقعة في أزمة حالياً، والتي تتوافق مع سيادة الفرد وأحلام بلوغ نماذج أخرى من العلاقات الاجتماعية، وكذلك مع الطريقة التي يمكن بها تدجين هذه العولمة المريبة للغاية. إن تلك الطوبيا- الإيديولوجيا تبعث من جديد أحلام التضامن على المستوى الكوني هذه المرة، وهذا سر قوتها. كذلك فإنَّ التقنية تتيح إيجاد الاستمرارية من جديد حيث يكشف التواصل النقاب عن الانقطاع وعدم التواصل، ولهذا السبب لا تزال الوقائع مجهولة الآن: إذ لا يبدو أن شيئاً قادر على المسّ بقوة نموذج التقنية سواء بما يتعلق بمخاطر القابلية لتعقب الأثر أم بما يتهدد الحريات وصولاً إلى "الوحدانيات التفاعلية".

Pages