رواية "أشباح الجحيم" للروائي الجزائري المعروف بياسمينة خضرا، ترجمها إلى العربية د. محمد ساري، وصدرت عن دار الفارابي عام 2007:
قراءة كتاب أشباح الجحيم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أشباح الجحيم
لم أتردّد عن حمل النظارات عندما عتبت أوّل مرة رحاب الجامعة رغم أن الطبيعة وهبت لي نظرة صقر. بهذه الطريقة استطعت أن ألفت إليّ أنظار نوال، فأضحت تحمر كعود الصليب كلما صادفتها عند خروجنا من الأقسام. حتى وإن لم أتجرأ على الاقتراب منها إلّا أن أدنى ابتساماتها تكفي لسعادتي. وحينما تلألأت سماء بغداد بأسهم نيران غريبة كنت أشيّد لها آفاقاً رائعة. ارتفعت صفارات الإنذار في صمت الليل؛ طفقت العمارات تتحوّل إلى دخان، وبين عشية وضحاها، ذابت الغزليات الأكثر جنوناً وسط الدموع والدماء. احترقت كراريسي وكتاباتي الرومانسية في الجحيم، وسلّمت الجامعة للمخربين والأحلام لحفّاري القبور؛ دخلت إلى كفر كرم، متهلِّساً، حائراً، ولم أضع قدميَّ في بغداد ثانية.
عند أهلي، ليس عندي ما أشتكي منه. لم أكن متطلباً؛ يكفيني الشيء القليل. كنت أسكن في السطوح، داخل غرفة غسل الثياب التي أعيد ترتيبها. أثاثي عبارة عن صناديق قديمة، وسريري مصنوع من لوحات خشبية التقطت هنا وهناك. وكنت سعيداً بالعالم الصغير الذي أقمته حول أُلفَتي. لم أكن أملك جهاز التلفيزيون بعد، ولكنني حظيت بجهاز راديو مُخَنْخِن كان يدفئ عزلتي.
في الطابق الأوّل، من جهة الفناء، يشغل والدي غرفة بشرفة؛ من جهة الحديقة، في عمق البهو، تتقاسم أخواتي قاعتين كبيرتين مكدستين بأثاث وملابس رثّة ولوحات دينية جلبت من الأسواق المتجوّلة، يظهر بعضها خطوطاً متاهية، والبعض الآخر يصوّر سيدنا عليّ ينقض انقضاضاً على العفاريت أو يقطّع أعداءه إرباً إرباً، وسيفه البتار، ذو الشفرتين، ينزل على رؤوس الكفار كما الزوبعة العاصفة. وتوجد أمثال هذه اللوحات داخل الغرف، وفي الرواق، وفوق الأبواب. لم تعلّق لأغراض التزيين، وإنما لفضائلها الطلسمية؛ إنها تقي من العين والحسد. في أحد الأيام، أسقطت واحدة بضربة كرة مفاجئة. كانت لوحة جميلة بآيات قرآنية مطرزة بخيط أصفر على عمق أسود. تهشّمت مثل مرآة. كادت أمّي تصعق صعقاً. أراها الآن، يد على الصدر والعينان جاحظتان، أكثر شحوباً من كتلة طبشور؛ سبع سنوات من الشقاء قد لا تنزف دمها بمثل تلك العناية.
في الطابق الأرضي، يوجد المطبخ مقابل غرفة ضيقة بها ورشة أختي عفاف، وقاعتان متداخلتان للضيوف، وقاعة استقبال ضخمة بباب ينفتح على بستان خضار وفواكه.
بمجرّد أن أنهيت ترتيب أدواتي، نزلت أسلّم على والدتي، امرأة قوية، صاحبة نظرة صريحة، لم تثنِ عزيمتها الأعباء المنزلية الشاقة ولا كرّ الفصول. قبلة على خدها تمنحني جرعة قوية من طاقتها. كنا نتفاهم بالأصبع والعين.
كان والدي يجلس في الفناء جلسة ناسِك، تحت ظل شجرة عصية التصنيف. بعد صلاة الفجر التي يؤديها حتماً في المسجد، يعود إلى الساحة يحرك كريات سبحته، اليد المعاقة في تجويف عباءته؛ لقد فقد استعمال ذراعه في انهيار بئر كان ينظفها... شاخ والدي فجأة منذ تلك الحادثة. ترهّلت هيبة ربّ البيت التي كانت ترفعه فوق الجميع، ولم تعد نظرته ترمي أبعد من مقلاع. سابقاً، كان يحدث له أن ينضم إلى مجموعة أقارب ليتبادل معهم تقييمه حول مستجدات الأحداث. ولكن الاغتياب تغلب على التصحيح، فانسحب. في الصباح، بعد خروجه من المسجد، وقبل أن يستيقظ الزقاق كلية، يستقر عند أسفل شجرته، وفنجان القهوة في متناول يده السليمة، ويسترق السمع إلى الضوضاء المحيطة به كما لو أنه يأمل في فكّ دلالاتها. كان والدي رجلاً طيباً، بدوياً من فقراء القوم لا يأكل دوماً إلى حدّ الشبع، إلّا أنه أبي ويبقى بالنسبة لي في المكانة التي تفرضها عليّ التقاليد والأعراف. ورغم ذلك، فكلما رأيته عند قدم تلك الشجرة، لا أتمالك نفسي من الشعور بالشفقة على شخصه. صحيح أنه كان وقوراً وشهماً، ولكن بؤسه ينسف كل المظهر اللائق الذي يجهد نفسه للحفاظ عليه. أعتقد أنه لم يشفَ أبداً من فقدان استعمال ذراعه، ويكاد يدمره الشعور الدفين بأنه أصبح عالة على بناته.
لا أتذكر أنني كنت قريباً منه أو أنني احتميت بصدره يوماً؛ ومع ذلك، كنت مقتنعاً بأنه سوف لن يدفعني إذا بادرت بالخطوة الأولى. المشكل: كيف السبيل إلى مثل هذه المجازفة؟ ثابت كالصنم، لا يظهر والدي شيئاً من عواطفه... وأنا طفل، كنت أخاله شبحاً؛ أسمعه عند الأفجار يشدّ رزمة أمتعته استعداداً للذهاب إلى الورشة؛ وقبل أن ألتحق به، يكون قد خرج ولا يعود إلّا بعد أن يكون ظلام الليل قد خيّم كلّياً. أجهل إن كان أباً طيباً. بسبب التحفظ أو الفقر المدقع، لم يكن يهدينا ألعابا، ويبدو أنه لم يكن يبالي لا بصراخنا الصاخب ولا بخمودنا المباغت. أتساءل إن كان قادراً على الحب، إن لم يحوّله وضعه كوالد لنا إلى تمثال ملح. في كفر كرم، يلتزم الآباء بالحفاظ على مسافة بينهم وبين ذريتهم، مقتنعين أن الألفة تضرّ بسلطتهم. كم مرّة اعتقدت أنني ألمح بريقاً بعيداً في نظرة أبي الصارمة. مباشرة بعد ذلك، يسترجع هيبته ويتنحنح كي أتملص بعيداً عنه.
في تلك الصبيحة، وتحت شجرته، تنحنح أبي عندما قبلت رأسه باحتفالية فاضحة ولم يسحب يده عندما مسكتها لتقبيلها. فهمت أنه لن ينزعج إذا جالسته بعضاً من الوقت. نتبادل أطراف الحديث، ولكن ماذا نقول؟ لم نتمكن حتى من مواجهة نظرتينا. حدث أن جلست إلى جانبه مدة ساعتين، ولم ينطق أحدنا ببنت شفة. اكتفى بتحريك كريات سبحته؛ ولم أتوقف عن دعك طرف الحصير. لو لم تأتِ أمي لتكلفني بشغل، لبقينا على تلك الحال إلى سقوط الليل.
- أنا ذاهب في دورة صغيرة. هل أنت بحاجة إلى شيء؟
أجاب بالنفي بحركة من رأسه.
وجدت الفرصة سانحة لمغادرته.
كانت كفر كرم دائماً قرية منظّمة: لم نكن بحاجة إلى السفر بعيداً كي نلبي حاجاتنا الأساسية. كانت لدينا ساحتنا للأسلحة؛ حلباتنا الخاصة باللعب. في الغالب إنها حقول مهملة؛ مسجدنا حيث ينبغي الاستيقاظ باكراً يوم الجمعة كي نجد مكاناً في الصفوف الأولى؛ محلاتنا، مقهيان -السفير الذي يرتاده الشباب، والهلال؛ مكانيكي من الطراز الأوّل قادر على تصليح أي محرك بشرط أن يكون من نوع ديزل؛ حداد يشتغل أيضاً كسباك عند الحاجة؛ قالع ضرس، وبائع أعشاب طبية ومجبّر في ساعاته الشاغرة؛ حلاق بمظهر هرقل الأسواق الموسمية، هادئ وشارد الذهن، ولحلاقة جمجمة يقضي وقتاً أطول مما يقضيه سكِّير في إدخال خيط في خرم الإبرة؛ مصوِّر أظلم من مخبره، وساعي بريد. لدينا أيضاً صاحب مطعم شعبي؛ وبما أنه لم يعد أحد من الحُجّاج يتوقف عندنا، تحوّل إلى إسكافي.