رواية "أشباح الجحيم" للروائي الجزائري المعروف بياسمينة خضرا، ترجمها إلى العربية د. محمد ساري، وصدرت عن دار الفارابي عام 2007:
قراءة كتاب أشباح الجحيم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أشباح الجحيم
2
في الساحة المحوّلة إلى ملعب كرة القدم، كان قطيع من الأطفال يضرب على كرة بالية في هرْج ومرْج، الهجمات فوضوية، والاختلالات مذهلة. إنهم أشبه بسرب عصافير مشعّثة تتخاصم حول حبة ذرّة صفراء. فجأة، تمكن طفل قصير القامة من انتشال نفسه من العراك وركض وحيداً كالكبير نحو مرمى الخصم. راوغ منافساً، تجاوز الثاني، مال إلى خط التماس وأعطى الكرة لرفيق له منعزلاً في المقدمة، ولكن هذا الأخير، المندفع كالصاروخ، أخطأ الرمي بحمق، قبل أن يجرجر مؤخرته على الحصى. بلا أدنى تردد، هجم طفل ثخين، كان مقرفصاً عند أسفل الجدار، على الكرة، خطفها وفرّ هارباً بسرعة. ذهل اللاعبون في البداية قبل أن يفهموا بأن المتطفل سرق منهم الكرة، فانطلقوا، دفعة واحدة، في مطاردته، واصفين إياه بكل أنواع الطيور. قال الحداد الجالس مع خادمه عند عتبة ورشته.
- لم يقبلوه لاعباً بينهم، بالضرورة، يفسد العرس.
شاهدْنا نحن الثلاثة الطفلَ الثخين يختفي خلف مجموعة منازل، والآخرين يقتفون أثره - الحداد بابتسامة لطيفة؛ وخادمه شارد الذهن. سألني الحداد:
- هل استمعت إلى آخر الأخبار؟ يبدو أن الإيطاليين يستعدون للرحيل.
- لم يحددوا الموعد بعد.
- المهم أنهم يحزمون أمتعتهم.
ثم استغرق في تحليل طويل ألحقه بعد ذلك بنظريات تقريبية حول تجديد البلد، الحرية، إلخ. وكان مساعده، وهو نحيف أسود وجاف مثل مسمار، يستمع إليه بانقياد مؤثر لملاكم مدوّخ، يردّ، بين جولتين، بإيماءة رأس لنصائح مدربه بينما يتيه بصره في ذهول غائم.
كان الحدّاد شخصاً ودوداً. حينما يستنجد بخدماته في أوقات مستحيلة، لتصليح تسرب ماء خفيف في الخزان أو تشقق تافه في الإسقالة، لا يرفض أبداً. كان صاحب قامة فارعة معظمة، بذراعين ملطخين بكدمات زرقاء ووجه أشبه بشفرة موسى. تتلألأ عيناه ببريق معدني أشبه بالشرارات التي تنبعث من طرف نافثة النار التي يستخدمها في عمله. يتظاهر المازحون بحمل قناع لحّام كي يواجهون نظره. في الحقيقة، يملك عينين متلفتين ودامعتين، ومنذ وقت قصير، بدأ بصره يتضبّب. أب لنصف دزينة من الأطفال، كان يأتي إلى ورشته للهروب من الفوضى العارمة السائدة في بيته أكثر مما يأتي للعمل. كان ابنه البكر، سليمان، الذي يقاربني في السن، مختلّاً عقلياً؛ يستطيع المكوث في زاوية بلا حراك لمدة أيام كاملة، ثمّ، ودون أدنى تردد، تُوخِزه أزمته ويبدأ في الركض، فيركض إلى غاية الإغماء. لا أحد يعرف كيف تأتيه تلك النوبة العصبية. سليمان لا يتكلم، ولا يشتكي، ولا يعتدي على أحد؛ يعيش متخندقاً في عالمه، ويجهل كلية عالمنا. بضربة مباغتة، يطلق صراخاً، دائماً نفسه، ويندفع عبر الصحراء دون أن يلتفت وراءه. في البداية، كنا نشاهده مندفعاً وسط اللهيب، متبوعاً بأبيه. مع الأيام، أدركنا أن تلك السباقات اللامتناهية قد تهلك قلبه، ومع طول الوقت، سيتعرض حتماً إلى سُداد قد يؤدي بحياته إلى الهلاك. في القرية، انتظم الجميع بحيث يسهل إيقافه بمجرد إعطاء الإنذار. وحينما نتمكن من القبض عليه، فإن سليمان لا يتخبط ولا يبدي أية مقاومة؛ يستسلم للأشخاص الذين يقيدونه ويعيدونه إلى البيت، فمه مفتوح على ضحك رنّان، عيناه جاحظتان.
- كيف حال الابن؟
- مثل الصنم، ردّ قائلاً. لم يتحرّك منذ أسابيع. نخاله قد شفي نهائياً... وأبوك؟
- دائماً عند أسفل شجرته... ينبغي أن أشتري حذاءً جديداً. هل هناك من يذهب إلى المدينة اليوم؟
حكّ الحدّاد قمة جمجمته.
- بدا لي أنني شاهدت شاحنة في الطريق، منذ ساعة تقريباً، ولكنني لست متأكداً إن كانت ستتوجه إلى المدينة. يجب الانتظار إلى ما بعد الصلاة. ثمّ إن السفر أصبح معقداً مع كل نقاط المراقبة والإزعاج الذي يسببه العساكر... هل رأيت مع الإسكافي؟
- إن حذائي غير قابل للترقيع. أنا بحاجة إلى حذاء جديد.
- إن الإسكافي لا يملك النعال، الصمغ فقط...
- سلعته تجاوزتها الموضة. أنا بحاجة إلى نوع حديث، لين وجميل.
- أتظن أن هذا ينسجم مع حالة طرقاتنا؟
- هذا ليس سبباً كي نعزف عن الجديد... سأكون سعيد الحظ لو وجدت شخصاً يحملني إلى المدينة. أريد شراء قميص جميل أيضاً.