You are here

قراءة كتاب خيانة المثقفين

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
خيانة المثقفين

خيانة المثقفين

كتاب "خيانة المثقفين ـ النصوص الأخيرة"، يضم نصوصاً غير معروفة، كتبها المفكر والأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 ـ 2003م)، في السنوات الأخيرة من حياته، وفيها يناقش دور المثقف في مواجهة الإستبداد والقمع والإنحلال الفكري العربي.

تقييمك:
5
Average: 5 (2 votes)
المؤلف:
الصفحة رقم: 10
لقد حمل سعيد المكان في داخله ولم يغفل عنه ولو لحظة، فهو يتذكر بيت عائلته في حي الطالبية في القدس ويتذكر ساحته التي كان يعلب فيها وأسماء كل جيرانه ويتفصد قلبه حين عرف بأن اليهود القادمين من كل أصقاع العالم من بولونيا شمالاً إلى أثيوبيا جنوباً ومن روسيا شرقاً إلى أمريكا غرباً استولوا على الأرض والبيوت بعد أن طردوا منها أصحابها الأصليين (يقع منزلنا العائلي في الطالبية ، وهو حي من القدس الغربية قليل السكان ، بناه وسَكَن فيه حصرا فلسطينيون مسيحيون من أمثالنا . والمنزل كنايةٌ عن فيللا حجرية مهيبة من طبقتين ، كثيرة الغرف ، تحيط بها حديقةٌ جميلةٌ نَلْعب فيها أنا وابنا عمي الأصغران وشقيقاتي . ويصعب الحديث عن جيرة فعلية ، مع أننا كنا نَعرف جميع ساكني الحي الذي لم تكن معالمه قد تبلورت بعد . أمام المنزل بورة مستطيلة خالية ، كنت أَلعب فيها أو أَركب دراجتي . ولم يكن لنا جيران مباشرو ، مع أنك تَلْقى على مسافة خمسمئة ذراعٍ تقريباً صفاً من الفيللات المشابهة يسكنها أصدقاء أبناء عمي . اليوم، أَضحت البورة حديقة عامةً ، والمنطقةُ المجاورة للبيت حياً فخما يسكنه أغنياء اليهود( .
 
المرة الأولى التي اصطدم بها سعيد بالكولونيالية كانت في أيامه الأولى بالمدرسة البريطانية حين عاقبه المدير وضربه بالسوط، تلك المدرسة التي لم يكن فيها أي عربي لا من طاقمها التدريسي ولا من طلابها لذلك لم تربطه أي علاقة صداقة مع زملائه. (وقد منحتني " إعدادية الجزيرة " اختباري الأول لنظام محكَم أنشأه البريطانيون كمهمة كولونيالية . كان الجو جو طاعة عمياء يؤطرها إذعان بغيض عند المعلمين والتلامذة على حد سواء . ولم تكن المدرسة مثيرة بما هي مكان للعلم ، ولكنّها زودتني بأول اتصال مديد مع السلطة الكولونيالية من خلال الإنكليزية القحة لأساتذتها وللعديد من التلامذة . ولم تكن لي علاقات متصلة بأولاد الإنكليز خارج المدرسة ، ذلك أن حبل سرة سرّياً كان يجمعهم ويخفيهم في عالم آخر مغلق علي . فأدركت تمام الإدراك كيف أن أسماءهم صحيحة تماماً، وملابسهم ولكناتهم ومعاشراتهم مختلفة كلياً عن ملابسي ولكنتي ومعاشراتي .)
 
أما صدامه الثاني مع الكولونيالية فقد كان في الحي الذي يسكنه (الزمالك) في القاهرة. فقد كان بقعة أجنبية وسط محيط عربي لا تسمح بوجود العرب وتترفع عنهم (تعرضتُ لمواجهة كولونيالية أشد حدة وسفورا . ففي طريق العودة إلى البيت عند الغسق عبر أحد الحقول المترامية الأطراف لنادي الجزيرة ، اعترضني إنكليزي يرتدي بذلةً بنيةً ، ويعتمر خوذةً قماشية ، وتتدلى حقيبةٌ صغيرة سوداء من مقود دراجته ...... لكنه قاطعني بلا رحمة : لا تجاوب ، يا ولد . غادِرِ المكان فحسب، وغادره بسرعة . ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان ، وأنت عربي!).
 
لقد أكد إدوارد سعيد حقه بالمكان الذي طرد بالقوة منه وتجلى تمسكه بهذا الحق في دفاعه المستميت الذي أعطاه عقوداً من حياته ولم يمل من خوض شتى أنواع المعارك في سبيله ولم ينته صراعه حتى بعد أن تمكن منه السرطان الخبيث إذ لا يزال صدى كلمات كتبه ومحاضراته ولقاءاته ومقالاته يدوي في كل المحافل الدولية والمؤسسات الثقافية؛ توثق الحق الفلسطيني وتفند الافتراءات الإسرائيلية عن الأرض الخالية والصحراء التي جاءها اليهود وعمروها وأن الفلسطينيين ليسوا إلا مجموعة من البدو الإرهابيين الذين يروعون المدنيين اليهود المسالمين (.ولا يزال يصعب علي أن أتقبل حقيقةَ أن أحياء المدينة تلك ، حيث ولدت وعشت وشعرت بأني بين أهلي ، قد احتلها مهاجرون بولونيون وألمان وأميركيون غزوا المدينة وحولوها رمزا أوحد لسيادتهم ، حيث لا مكان للحياة الفلسطينية التي انحسرت إلى المدينة الشرقية التي أكاد لا أعرفها. فلقد أَضحت القدس الغربية الآن يهودية بالكامل ، وطرد منها سكانها السابقون نهائيا في أواسط العام 1948 .)
 
(خارج المكان) كتاب سيرة ذاتية نال الإعجاب والجوائز، كتب بأسلوب مميز اختلط فيه الألم والحزن بالحنين والطموح. فالكتاب يحمل العديد من الخصائص الأدبية. يستعيد فيه سعيد جزءاً من ماضٍ عام، سياسي واجتماعي عبر الكتابة عن ماض شخصي، كما جاء الكتاب سرداً لارتحالات عدة، واحتفالا بماض لن يستعاد. سعيد شرع في كتابة سيرته فور اكتشافه إصابته بسرطان الدم، وقد لعبت ذاكرته ـــــ كما يقول ـــــ دوراً حاسماً في تمكينه من مقاومة المرض من خلال استرجاع العديد من الأشخاص والأمكنة التي لم تعد موجودة. فكان الكتاب سجلاً لعالم مفقود ، عالم لم يعد كما كان، تحولت فيه فلسطين إلى إسرائيل وانقلب لبنان رأساً على عقب بعد عشرين عاماً من الحروب الأهلية، ولم تعد مصر كما كانت قبل ثورة يوليو 52.
 
كتب سعيد عن السنوات الأولى التي قضاها في العالم العربي، حيث ولد وأمضى سنواته الأولى بغنائية شديدة، وبدرجات متفاوتة من الصراحة، ما جعل النص عملاً إبداعياً. كما كشف سعيد أيضاً في مقدمته للسيرة عن رغبته الدائمة في تجريب أشكال مختلفة من الكتابة... ولكن ( كتاباتي الأخرى وتدريسي، أبعدتني كثيرا عن العوالم والتجارب المختلفة التي ينطوي عليها هذا الكتاب، فالأكيد أن الذاكرة تشتغل بطريقة أفضل وبحرية أكبر عندما لا تفرض عليها الأساليب أو النشاطات المعدة أصلاً لتشغيلها).

Pages