رواية "حورية الماء وبناتها"، هذا العمل هو الكتاب الأربعون في سلسلة الأعمال الشعرية والروائية التي أصدرها سليم بركات طيلة حياته الإبداعية التي بدأها قبل أكثر من أربعين عاماً ومازال مستمراً في هذا العطاء. رواية ‘حورية الماء وبناتها’، ‘رحلة في سفينة سياحية.
أنت هنا
قراءة كتاب حورية الماء وبناتها
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
قليلاً قليلاً ذابت الجماعةُ المسافرون بدخولهم المتتابع مقاصيرَهم، المدفوعة الأجر ككلِّ مناسِك الرحلة ـ منامِهم، وطعامهم، وشرابهم، ذهاباً إلى الثغرة المائية الصفراء في عُرْض بحر تريتونفال، وإياباً إلى ميناء مدينتهم لِيْهُوْلم ـ ميناءِ الظلال القصيرة· هم سيأخذون من الوقت مغانمَ الكسل، من مطلع أيلول حتى الساعة الثانية عشرة وأربع دقائق، تحديداً، من ظهر اليوم الرابع والعشرين منه· سيتتبَّعون الآفاقَ، من المقاعد في مُشْرَفِ السفينة المحيط بهيكلها، بعيون كسلى، أو متوثِّبة في استعراض بحر تريتونفال ـ بحر الشمال النهائي، الذي استنفدت مكتَبةُ مدينة ليهولم ستةً وستين رفًّا من رفوفها بالطوامير الجلودِ اللفائف أشعاراً مدوَّنةً عن مُلغزاتهِ ومتَّضَحَاته، وأشعاراً تواترت شفاهاً فدوِّنَتْ، بسيطةً أحياناً، عميقةً مقلقة أحياناً، ساذجةً أحياناً· ما من كتابة في شؤون هذا البحر، المُستَوهَمَةِ والمُخْتَبَرَةِ حِسًّا، إلاَّ أُثبتَت في طُوْمارٍ ـ لفافةٍ جلدٍ ـ قديمِها المدوَّن وحديثِها، مِثْلُها كرسائل الملوك القدامى، والدَّهاقنة الأسياد· والطواميرُ، هذه، تُعْرض على الطالبيْنَ من روَّاد المكتبة مبسوطةً بيدَيْ عاملٍ أناةٍ في شأن النشر والطَّيِّ عليهما قفَّازان من جلد فقمَة مدبوغ· كلُّ المسافرين من هؤلاء، والمسافرين قبلهم قرناً بعد آخر، ممَّن أشرفت الحظوةُ بهم على نشوء المكتبة، استعرضوا طوماراً من اللفائف المحفوظاتِ تلك، أو أكثر ربما، قبل إقبالهم على الرحلة إلى بحر تريتونفال ـ بحر الشمال النهائي، طَلَباً للبهيِّ الفريدِ شهوداً على رقصة حوريات الماء، دقيقتين لا سوى، في اليوم الرابع والعشرين من أيلول· هي رقصةٌ على وصْفيَّاتٍ في التدوين لا يطابق وصْفٌ واحدٌ وصفاً آخر في عددها البالغ ألفاً وثلاثةً من محفوظات المكتبة· والمسافرون الجدد، الشهودُ الموعودون بالبزوغ السحريِّ للمشهد ذاتهِ مُعاداً من رقصة الحوريات، سيعودون، في نهاية الرحلة، بوصفٍ يُضاف إلى المدوَّنات، في طومارٍ لفافةٍ عليها رباطٌ حريرٌ، في الأرجح، أو رباطٌ مضفور من أعشاب البحر· أمَّا في يوم رحلتهم الأول، قبل الظهر، فقد توزَّعوا على أنحاء السفينة مستكشفيْنَ· والذين آثروا أن يتتبَّعوا الآفاقَ الغَمْرَ، أولاً، خرجوا إلى المُشْرَف الشاسع المحيط بالهيكل الحديد الكبير، مستندين إلى الحاجز القُضبانِ، أو جالسين على المقاعد بعيونٍ على الأزرقِ الرماديِّ، مُذْ غابت عنهم عماراتُ المدينة، ومداخنُ معاملها الأبراجُ·
لم ترتخِ أيديهم عن مقابض تروسهم، جلوساً أو واقفين· لكنهم تعاونوا على إخراج غلايين طويلة، بيضاء، عاجٍ من أنياب حيوانات البحر ـ عجوله، وفِيَلتِه، وحيتانه القاتلةِ أوْرْكا· حشوها عشباً أبيضَ، مفلفلاً، كلٌّ من كيس صغير مُوْدع في جيبه· أشعلوها بالقدَّاحات، وبعيدان الكبريت· تنهَّدوا متعةً بخروج الدخان من أفواههم، وأنوفهم، معافىً، نقيًّا، ناحتاً بإزميله الأثيريِّ هيئاتٍ من خلائق الأزل الأثير· الفتاةُ الصغيرة، التي آثرتْ، كالمستطلعيْنَ آفاقَ أعماقهم فوق الثَّبَجِ الكسول الراكد، أن تتخيَّر مُشْرَفَ السفينة موقفاً تلمس بيدي هوائه أحوالَ ساعاتها الأولى في الرحلة· وضعَت ترسَها الدَّرقة بين فخذيها وقوفاً· فتحت حقيبة رفيعة الجسم، مستطيلة القوام، معلَّقة إلى كتفها· أخرجت غليوناً أبيض، رفيع القصبة، برأسٍ نصفِ كُرة· حشتْه عشباً أبيض· أشعلتْه بقدَّاحٍ· تنشَّقت الدخانَ طويلاً· احتبستْه في رئتيها، ثم أطلقته زفيراً متَّصلاً· أطبقت فمَها، وترنَّمت بصوتٍ باطنٍ·