أنا حاوية مخلفات (أجلكم الله) بأسماء متعددة· البعض يطلق عليّ حاوية قمامة· البعض الآخر يفضل اسم حاوية الفضلات· هناك من اختار لي اسم .برميل الزبالة.
قراءة كتاب مذكرات حاوية مخلفات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
ما صبـّرني على حالتي البائسة، وخفف عليّ متاعبي في شارع الزبارة أمران كانا بمثابة تسليتي اليومية!
الأول هو أني كنت أستمتع بـرؤية المارة من الجنس الناعم، اللواتي كن لا يتوقفن طيلة النهار عن المرور بمحاذاتي، ولا سيما الفلبينيات والتايلانديات منهن، بأجسامهن الصغيرة، وبشراتهن الملساء، وشعورهن الناعمة الطويلة، وقسماتهن المتشابهة· من هؤلاء، كانت الوحيدة التي سلبتْ عقلي وزلزلتْ كياني صبية كانت تعمل في محل للتصوير بجانب موقعي· هذه الفلبينية العشرينية لم تكن على قدر كبير من جمال الوجه، غير أن قوامها الممشوق، وخلفيتها المستديرة البارزة المشدودة داخل بنطال .الجينز. الأزرق، وطريقة سيرها المشابهة لمشية أنثى الحمام، كانت تسلب الألباب، وخصوصا حينما كانت تتعجل الخطى، فيهتز نهداها الصغيران يمنة ويسرة أو علوا وانخفاضا·
أما الأمر الثاني فقد تمثل في مزاولتي لهواية .البحلقة. اليومية في المتسوقات الهنديات والباكستانيات، اللواتي كن يجذبن أنظاري ويحركن غرائزي بسراويلهن البنجابية الملونة، أو بالساري التقليدي الكاشف عن خصورهن، أو بأريج الياسمين المنبعث من أجسادهن البرونزية، أو بروائح زيت النخيل المنبعثة من شعورهن السوداء الفاحمة·
المارة الإناث من الجنسيات الإفريقية كالأثيوبية والأريترية لم أكن ألقي لهن بالا، ليس لأسباب عنصرية، وإنما لأسباب تتعلق بذوقي الشخصي في النساء· لكنهن كن مصدر اهتمام وتركيز، بل ومطاردة أيضا، من قبل بعض مرتادي الشارع ممن كانت تستهويهم البشرة الداكنة، والأرداف الضخمة المسجونة داخل ملابس ضيقة تبرز أدق تفاصيل الجسد· غير أن تلك الملابس الضيقة اللافتة للنظر والمستجدية للبحلقة، كانت تتوارى لصالح ملابس بيضاء فضفاضة في أيام الآحاد، حينما كن صاحباتها يخرجن في جماعات للصلاة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية·
لا أتذكر أني لمحتُ في شارع الزبارة متسوقات من البحرين أو الدول الخليجية المجاورة إلا في ما ندر، هؤلاء لم تكن بضائع هذا الشارع تغريهن، لذا كانت وجهتهن المفضلة هي المجمعات التجارية الفاخرة في ضاحية .السيف. الحديثة·
تسليتي الأخرى تمثلت في مراقبة ما يجري في مقهى شعبي مواجه لدكان .عبدالرحيم. في التنصت على ما يتفوه به رواده من آراء وقفشات وأخبار وسفسطة سياسية· كان المقهى، الذي اختار له صاحبه اسم .مقهى أيام الغوص.، فبدا اسماً على غير مسمى يقدم الشيشة والقهوة والشاي والعصائر· كان يتيح أيضا لزبائنه الإستمتاع بلعبتي الطاولة والدومينو، ومشاهدة برامج القنوات الفضائية الأجنبية؛ لذا كان المكان يزدحم طوال اليوم بالرواد من مختلف الشرائح المذهبية والطبقات الاجتماعية والمدارس السياسية، وإن كانت الغلبة لفئة المتقاعدين والعاطلين والمتسربين من دوامهم الحكومي، والمتعاملين في بيع العقارات·
من خلال هذا المقهى تعرفت على نماذج بشرية متنوعة، فاطلعتُ من خلالها على معلومات جديدة عن البحرين وما كان يجري فيها من تطورات·
تعرفتُ أولا على .بوجعفر. السبعيني، الذي كان يأتي مبكرا في صبيحة كل يوم، بجسم نحيل ووجه شاحب وخطى متثاقلة، بسبب تقدمه في العمر، وإصابته بقائمة من أمراض العصر المنتشرة· لم يكن تبكيره في المجيء إلا بداعي احتلال طاولة مركزية داخل المقهى، ليمارس من فوقها هواية تحدي الآخرين في لعبة الدومينو السخيفة·· اللعبة التي لا تجلب أحجارها سوى الصداع والأصوات المزعجة، خصوصا عندما تستبد بلاعبيها الحماسة والنشوة· لاحقا تبين لي أن .بوجعفر. هذا هو من البقايا المهمشة في الحركة اليسارية البحرينية، ممن لم يتوقفوا عن الجدال حول .الأممية الماركسية. و.قيادة الفلح والعمال لحركة التغيير في المجتمعات. حتى بعد أن تفتت الاتحاد السوفيتي وانهارت الأنظمة الدائرة في فلكه· فوق ذلك، اكتشفتُ أن .بوجعفر. هذا إنسان متعصب لطائفته المذهبية· فعلى حين أن ماركسيته المزعومة كان من المفترض أن تقتل في داخله النفس الطائفي أو تحجمها، فإن ما حدث هو العكس؛ إذ تفوق النفس المذهبي على الوطني والأممي معا· كان دائم التأفف من سياسات الدولة· إعتاد أن يشكك في كل ما تقوم به الحكومة ويصفه بأنه تمييز ضد طائفته· اعتاد أيضا أن يرسل إشارات مبطنة توحي بسخريته من قراء صحيفة يومية معينة، متهما إياهم بموالاة النظام، وإشارات أخرى توحي بسروره من كل من كان يقرأ الصحيفة اليومية الناطقة باسم المعارضة الطائفية·
ثم تعرفتُ على .بوأحمد. الذي كان هو الآخر يبكر في المجيء، لكن من أجل غرض آخر هو الحصول على مقعد منزو في مكان هادئ على ناصية الشارع· كان .بوأحمد. على خلاف الآخرين، يرتدي ملابس إفرنجية ثمينة، وتفوح منه روائح عطور باريسية شهيرة، ويقود سيارة فاخرة، الأمر الذي استنتجتُ معه أنه كان ذات يوم يحتل منصبا كبيرا في جهاز من أجهزة الدولة أو القطاع الخاص، وما تردده على هذا المقهى الشعبي المتواضع إلا من باب التخلص من الملل والضجر المصاحبين للتقاعد المبكر· بدا لي أيضا أن الرجل من ذوي الثقافة العالية والحرص على الاستزادة من المعارف· كان ينكب بمجرد وصوله إلى المقهى على قراءة مجموعة منتقاة من الصحف المحلية والعربية والأجنبية، فإذا ما فرغ منها استل من جيبه قلما وورقة ليكتب ويعدل وينسخ حتى حلول ساعة الظهيرة، وكأنه بصدد إعداد بحث أكاديمي أو كتابة مقال صحفي أو تأليف رواية مثلا·