سابع ايام الخلق ـ هي احدى أهم روايات عبد الخالق الركابي وهي ملحمة روائية عراقية تستحق احتفالية خاصة نساها النقد في الخارج ولم يتعرض لها احد كما لو ان الركابي متهم بإرتكاب جريمة العيش في وطن تقلصت حدوده الى مجرد كرسي متحرك يعيش ويكتب ويحلم داخله ويحاكم الازم
أنت هنا
قراءة كتاب سابع ايام الخلق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
كان بدر، أثناء تجوالنا، لا يكف عن الثرثرة مطرياً أصالة ما يرى، مجيلاً نظراته في شتى الاتجاهات، لكنه صمت حين أخذت ساعة (الليوان) الجدارية تدق معلنة الوقت· ووقف متأملاً فاغر الفم صور أفراد الأسرة الموتى والراحلين وهي تزين جدران (الليوان) في وضعيات أزلية حنّطتها عليها عدسات مصورين مجهولين قد يكونون بدورهم التحقوا بمصيرهم المحتوم· وكانت تكتكة الساعة وحركة بندولها التلقائية تزيدان الشعور بالوحشة، حتى أن (بدر) كف عن الكلام ونحن نرتقي درجات السلم نحو الطبقة الثانية لنحط الرحال في آخر الأمر في غرفة (الأرسي) التي تعلو واجهة البيت حيث شمل بدر محتوياتها بنظرة طويلة تلكأ بها على رفوف الكتب التي تحف بالجدران· وتفحص بشغف تلك التماثيل الخشبية الصغيرة التي لم يمنحني الكسل فرصة إنجازها منذ سنوات· وحام حول مكتبي العتيق الذي تناثرت فوقه الأوراق وأقلام الرصاص، وأزاح جهاز الهاتف جانباً ليلتقط من تحت المصباح المنضدي نسخة من كتاب (محافظة الأسلاف في ماضيها وحاضرها) تأليف صديقه (شبيب طاهر الغياث)·
- لولا متابعتي الشخصية لهذا الكتاب، الذي صدر ضمن منشورات المتحف، لكان من المستحيل أن يطبع بمثل هذه الأناقة والجودة وبحجم كبير وبغلافين سميك وورقي·
ذلك كان ما قاله بعد صمت طويل وهو يعبث بصفحات ذلك الكتاب· ولم ينسَ إزاحة الستارة الزرقاء جانباً ملقياً نظرة عابرة على شناشيل بيوت الزقاق المتقابلة وهو يقول:
- موضع مثالي لكتابة روايات عن مدينة (الأسلاف)·
وأضاف وقد جلس على طرف سريري الخشبي المحاذي للكرسيّ الدوار:
- الآن عرفتُ سر إصرارك العنيد على مواصلة كتاباتك؛ ذلك لأنك وحيد!
أجبته وأنا أجلس على الكرسي مديراً إياه في اتجاهه:
- ما الكتابة إلا تنفيس عن كرب الوحدة!
فتساءل وهو يومئ برأسه نحو باب الغرفة متابعاً فكرته:
- وتلك الصور المعلقة في الأسفل، لمَ لمْ تكتب عن أصحابها رواية؟
- وهل خلتْ رواية من رواياتي منهم؟
فتأملني لحظات كأنه يحاول أن يفقه مغزى كلامي، وحينما عجز عاد يطرح أحد أسئلته المباغتة:
- وصورتك؟ لِمَ لم أرها بينها؟
فأجبت وأنا أبتسم:
- لا يستحسن أن تزين الجدران إلاّ بصور الموتى والغائبين!
وعاد يتأملني من جديد وقد أزعجه بعض الشيء كلامي الغامض هذا، لكن ذلك لم يمنعه من أن يُثني على روايتي الأخيرة التي كان قد أنهى قراءتها قبل يوم، مؤكداً أنني وقعت على موضوع سأعود إليه أكثر من مرة في روايات لاحقة· وعلّق في محاولة واضحة لمجاراتي في ذلك (الضرب الملغز) من الكلام:
-·· وذلك يعود إلى شعور مبهم ينتاب كل مبدع ينشد الكمال في عمله؛ وهو الشعور بوجود (نقص) لا سبيل له إلى تلافيه، خذني أنا مثلاً: فبرغم أنني قضيتُ نصف قرن في إنشاء المتحف، بادئاً بأقدم العصور انتهاءً بالوقت الحاضر، لكن شعوراً ملحاً يملؤني بوجود (نقص) في عملي ذاك، (نقص) يجعل مرافق المتحف العديدة لا تكسب مغزاها الحقيقي إلا بوجود مرفق أخير، وهنا تكمن معضلتي الحقيقية؛ فما يجعلني عاجزاً عن إنجاز ذلك المرفق هو يقيني بأنه يجب ألا يشبه المرافق القديمة، بل·· بل··· كيف أعبّر؟ بل إنه يحتويها كلها!
وثبّتَ عينيه على وجهي متأملاً إياي بنظرة ملحة حاول بها أن يفهمني ما عجزتْ كلماته عن إيصاله·
والغريب في الأمر أنني وجدتُ مخطوط (الراووق) يخطر في ذهني وأنا أسمع كلمات بدر؛ فـ(النقص) بدوره بقي سمة ملازمة له، وقد يكون هو السبب الحقيقي لاتخاذ ذلك المخطوط هذه البنية المفتوحة التي بقيتْ تنمو حتى الوقت الحاضر· وعلى كل حال أيسعني أن أتجاهل أن المتحف والمخطوط ما هما في واقع الأمر إلا وجهان لتاريخ (الأسلاف) مكانياً وزمنياً؟