سابع ايام الخلق ـ هي احدى أهم روايات عبد الخالق الركابي وهي ملحمة روائية عراقية تستحق احتفالية خاصة نساها النقد في الخارج ولم يتعرض لها احد كما لو ان الركابي متهم بإرتكاب جريمة العيش في وطن تقلصت حدوده الى مجرد كرسي متحرك يعيش ويكتب ويحلم داخله ويحاكم الازم
أنت هنا
قراءة كتاب سابع ايام الخلق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
- الاختزال طابع المستقبل؛ وذلك ما يجب أن يسم المتحف بميسمه: فبعدما كانت جماجم الإنسان القديم وعظامه تعد ضرباً من العينات الآثارية، أضحى في استطاعة كتاب الآن أن يختصر آلاف الأشياء، وسيأتي اليوم الذي قد يستعاض فيه بابتكار ما عن مكتبات كاملة!
وهكذا ارتفعت، فوق أسوار القلعة القديمة، أبنية خرسانية تبدو من القرب على شيء من البشاعة والتنافر: أبنية تتلاقى وتتفرع عن بعضها بخطوط غير منسجمة تبدو كأنها تنبع دون سابق تخطيط، فتبعث على الدوار والرهبة - ولاسيما حين تُضاء ليلاً بأضواء الكشافات الساطعة - لكنها تلوح من بعيد متسقة، ذات بناء متدرج يشمخ فوق أعلى عمارات المدينة: يكفي المرء في أي موضع كان الالتفات نحوه ليشخصه ماثلاً لعينيه في زرقة السماء!
في البداية احتلت الطبقة الأرضية، المحصورة بين أسوار القلعة الأربعة، مرافق المتحف الإدارية والفنية: من مختبر لتصليح العينات وتنظيفها ومعالجتها كيميائياً قبل عرضها، إلى مستودعات لحفظ العيّنات، وغرفة التصوير الشمسي، فضلاً عن غرفة بدر نفسه، وغرف موظفيه وغرفة للحراس· وبدأ البناء الحقيقي للمتحف في الطبقة الأولى التي تعلو تلك الطبقة الأرضية حيث رمم المفتول الشرقي القديم، وحُوّر ليغدو بمثابة المدخل: إذ ما يكاد الزائر يرتقي درجات سلمه اللولبي حتى يجد نفسه داخلاً أولى قاعات العرض·
كانت غاية بدر تتركز في تصميم أماكن العرض الخاصة بتاريخ نشوء مدينة (الأسلاف) وتطويرها من محض قلعة فجّرتِ الصراع بين (السيد نور) و(مطلق)، إلى المدينة الحالية التي لا تكف عن الاتساع والنمو، تاركاً لعشرات المهندسين والمعماريين والفنيين المختصين بشؤون المتاحف، تصميم الأجنحة الأخرى على طراز الأنماط السائدة في المتاحف التقليدية·
كانت الفكرة، في بادئ الأمر، غاية في البساطة والوضوح وهي أن تقود أحداث (السيرة المطلقية) الزائر نحو المكتبة· ومما يسّر تحقيق ذلك كون المتحف لم يبنَ دفعة واحدة، بل نما وتطور على امتداد عقود من السنين بقيت الأجنحة خلالها تقام ويُلحق بعضها ببعض عن طريق ممرات وسلالم وشرفات أخذت تزداد تعقداً وتشابكاً بمرور الزمن·
كانت القاعات تتلاحق عارضة العينات الآثارية بحسب الطرق المألوفة: إذ تبدأ بأقدم مخلفات البشرية، صعوداً إلى المكتبة، حيث القاعات المعزولة عن كل ما يمت إلى الخارج بصلة - من صوت أو ضوء - تعزز لدى الزائر حالة استغراق تلقائية مع تلك العينات المتفاوتة قيمة وحجماً: عينات دقيقة معروضة في صناديق زجاجية، جماجم وعظام بشرية، سلاسل فقرية، جرار فخارية، قطع خزفية، أختام إسطوانية، حلي وأحجار كريمة، مسلات توشح هياكلها الحجرية كتابات مسمارية هندسية الخطوط، وتماثيل ضخمة، ثيران مجنّحة تزيدها الأضواء الكاشفة المسلطة عليها مهابةً ورهبةً، وجداريات تمتد بطول أكثر من قاعة، جسّد عليها نحاتون مجهولون مناظر الصيد والقنص والحروب، وتقديم القرابين، ومباركة الآلهة والكهنة للملوك والأمراء والقوّاد·
وفجأة - وهي مفردة يشدد على أهميتها بدر - يجد الزائر نفسه بفعل مصادفة - كأن يزيح ستارة جانباً، أو يرتقي درجتين، أو يلج باباً مشرعاً بين جداريتين، أو يهبط بضع درجات تبدو كأنها تؤدي إلى قبو - يجد نفسه داخلاً قاعة تناقض القاعات السابقة كلها، قاعة تتوزع فيها ديكورات ونماذج متقنة الصنع تجسد إحدى مراحل نمو مدينة (الأسلاف) وتطورها، ومن خلال واجهة زجاجية تشغل جداراً كاملاً يرى المدينة نفسها وهي تنمو وتتسع تبعاً لصعوده واتساع مجال رؤيته، حتى إذا انتهى بالمكتبة رأى، من خلال عشرات النوافذ، المدينة كلها من جهاتها الأربع حتى حدودها القصية·
وإمعاناً من بدر في تعميق وقع المفاجأة تلك جعل المنافذ المؤدية إلى تلك القاعات متعددة تعدداً كان يؤدي بالزائر إلى أن يمر بتلك القاعات بتسلسل مختلف في كل زيارة، إذ إن انحراف سيره قليلاً إلى اليمين أو اليسار، أو ارتقاءه بضع درجات أو هبوطه بضع درجات كان يؤدي به إلى أن يدخل في كل مرة قاعة أخرى، بل إنه كان يحدث أحياناً أن يمر بقاعة معينة أكثر من مرة دون رغبة منه!!
لكن تلك المنافذ، في تعددها، وتلك السلالم، في هبوطها أو صعودها، كانت تقود في آخر الأمر نحو المكتبة حيث تبدأ من هناك سلالم الهبوط، وهي - على النقيض من سلالم الصعود - مرتبة ترتيباً صارماً معززاً بأسهم وإرشادات تقود الزائر في هبوطه نحو قاعات أثثها بدر بمخلّفات أبرز رجال العشيرة والإداريين الذين تعاقبوا على إدارة (الأسلاف)، محيطاً إياها بديكورات ولوحات ومؤثرات صوتية تبرز أهم سمات المدينة في القرن العشرين، حتى إذا ما هبط الزائر درجات سلم المفتول الغربي خارجاً من المتحف طرف بعينيه دهشة، وهو يرى المدينة نفسها منبسطة أمامه على مدى البصر، كأنه صحا من حلم!
كان بدر يعزو سر الاختلاف بين سلالم الصعود - في تشابكها وتعقدها - وبين سلالم الهبوط - في وضوحها وترتيبها - إلى طبيعة أحداث (السيرة) التي استرشد بها في إقامة متحفه: فالاهتداء إلى مراحل تكوّن مخطوط (الراووق) ونموه يختلف في تعقده وغموضه عن المراحل التي أعقبت اكتمال ذلك المخطوط، وانسجاماً منه مع هذه الفكرة كان قد جعل كل قاعة تحمل اسم أبرز من ألّف أحداث السيرة، وهم (عبد الله البصير) و(مدلول اليتيم) و(عذيب العاشق) و(السيد نور) و(ذاكر القيم)، وأخيراً (شبيب طاهر الغياث)·
ست مراحل ضائعة وسط متاهة مئات المرافق والأروقة والممرات والسلالم، كان بدر يفتخر بأنها وليدة عبقريته، أقام خمساً منها على محيط المتحف لتشرف كل واحدة منها، من خلال واجهة زجاجية، على المدينة نفسها· وكانت القاعة (النورية) هي الوحيدة المنغلقة على نفسها في عمق المتحف؛ فلكونها تمثل المرحلة (المعضلة) من تاريخ نمو (الراووق) كانت شبه مظلمة، تتراقص فيها ظلال الزوار التائهين في مرورهم العابر نحو القاعات الأخرى؛ إذ لا يوجد فيها ما يبعث على البهجة قدر ما يبعث على الرهبة والخوف والتأمل: فقد كان سقفها مجوّفا مثل باطن قبة يضفي عليها هيئة ضريح تكتنفه الأسرار والغموض؛ وثمة مزيج من رائحة البخور والحنّاء يفوح منها على الدوام· وكانت تكثر فيها المنحنيات والزوايا والأقواس المسنودة إلى أعمدة دقيقة، تزين جدرانها المرايا الطويلة الضيقة التي تعكس المزيد من الظلام، وثمة كتابات بيض - هي فقرات مستلّة من تلك الورقة اليتيمة التي اكتشفت من أوراق (السيد نور) - على خلفيات زرق تحيط بها التزويقات والزخارف الهندسية والنباتية· وكانت هناك أسطورة أُشيعت عن تلك القاعة عززتها بضع (زيجات)، مفادها أن لقاء حبيبين فيها (مصادفة) أكثر من مرة كان كفيلاً بأن ينتهي بهما إلى زواج مؤكد؛ وذلك ما جعل تلك القاعة ملتقى عشاق المدينة الخائبين!
وكانت المرحلة السادسة المتمثلة بالمكتبة تختلف عن بقية المراحل بكونها تُركت لتدل بنفسها على مغزاها؛ إذ إن (بدر) اعتاد أن يؤكد وجود أغلب أوراق (الراووق) مبعثرة بين آلاف المخطوطات في انتظار اليد التي تستلها من موضعها نافضة عنها الغبار!
أما القاعات الأربع الباقية فقد أعاد بدر فيها إحياء تاريخ (مدينة الأسلاف) وأولاها القاعة (البصيرية)، حيث الديكورات تجسد فيها معالم المرحلة الأولى لنشوء المدينة، يعززها صوت (قصخون) مزوّد برباب يجلس عادة في أبرز مكان، مهمته - لقاء مرتب شهري - تتلخص بأن يسرد على أسماع كبار الزوار أحداث القسم الأول من (السيرة المطلقية)، ذلك القسم الذي ألّفه (عبد الله البصير)·