أنت هنا

قراءة كتاب مديح الهرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مديح الهرب

مديح الهرب

في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود الكاتب السوري خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة".

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
[1]
 
خرجتُ وحيداً·
 
كانت الدنيا عصراً، عندما خرجت ·
 
من المعسكر الصغير الواقع بالقرب من قرية إنْخِلْ في حوران، خرجت ماشياً بهدوء·
 
تركت الخيمة العسكرية الصفراء مرفوعة اللثام، وَرحتُ امشي· ثلاث سنوات مرت على تخرجي من كلية الطب، ولم أكن على بينة من الأمر، بعد!
 
أخذتُ الطريق الترابي المنحدر من قلب القرية غرباً· طريق مساءاتي التي أمشيها، متمهلاً، كل يوم· امشي صامتاً· يَداي في جيبي، وقلبي فارغ وحزين·
 
حقول الحنطة والشعير تحيط بالدرب الضيق الذي امشيه· درب سيسلكه الناس والدواب والآليات والأجهزة المتجهة إلى الجبهة· درب النسوة والَحصّادين، وحَمَلَة أكوام القش واللَّقيط·
 
أسير متبائسا·ً أعرف أن حياتي الجديدة في الجبهة لن تختلف إلا قليلاً عن حياتي الأولى· لكنه اختلاف مدمر للعقل·
 
العالم قدّامي، وعلى مرمى بصري الآن· وما علَيّ إلا أن أخضع له، أو أَتحداه· تلك هي المشكلة· فالفرق بين الخضوع والتحدي، كالفرق بين الحركة والسكون، بين الحياة والموت·
 
سرتُ ما يقارب الساعة، وعليَّ الآن أن أَعود· وبالفعل استدرت، وعدت ماشياً إلى الوَراء· أعرف أني سأكرر المشية هذه أياما، وأشهراً، وربما سنوات· وهو ما كان يملأ قلبي بالآلام والأوهام· آلام الحياة الجامدة التي صِرتُ أَخشى أن تستمر إلى الأبد، وأوهام خلاص غير منظور·
 
عندما وصلت إلى الخيمة الصغيرة، استقبلني حاجبي اللطيف، زكي، محيياً، لامّاً قَدميه بقوة، رافعاً يده اليمنى إلى مستوى حاجبه، قائلاً بصوت واضح: احترامي سيدي!
 
ابتسمت له بمودة، ودخلت· نظرته متواطئة وحنونة· أعرف، أو أَكاد، معنى تلك النظرة اللاَّطِئة تحت حاجبيه· الشمس قد أغربت منذ دقائق· وموعد الكشوفات الليلية قد حان·
 
- المرضى ينتظرون، سيدي! قال زكي بتهيب· ولما رَآني ابتسم له، أضاف: والعشاء جاهز!
 
كدت أسأله عمن جهّز العشاء الفَطير في تلك الليلة التي ستكون، أيضاً، بلا أفق، إلا أني كتمت النفس ودخلت·
 
في الخيمة المرسومة في الخلاء: سرير من الحديد الأجرب، وبطانيات صفر قديمة· وفيها كرسي من التنك ، وَقادوس ماء لم يغسل منذ أن استعمل اول مرة· التراب المحيط بها يغلق نوافذها الواطئة، ويسد منافذ التنفس منها وفيها· ولكي تتمكن في الأرض، حَفَر الجند لها حفرة عميقة · حفرة كافية لتدم اكثر من جثة·
 
في وضع قلق كوضع حرب محتملة (مثل وضع الجبهة التي أنا فيها) يكمن الخطر في تبرير الأمور بسهولة ومكر· وفي المساءات التي أمشيها وحيداً يخطر لي أن ثمة الكثير ممّا هو غير مفهوم في ذلك الوضع الرهيب!
 
أحياناً، أترك الدرب المعبّد بطريقة بدائية، لألج في بطن الحقول المحاذية له· وكثيراً ماأَنبطح على بطني في الزروع، مبللاً نفسي بالندى المغربي· رطوبة المساء تجعلني اقشعر· تعيدني إلى أماسي الجزيرة البعيدة، يوم كنت طفلاً· ولكن مَنْ باستطاعته البقاء في تلك المنطقة المحرمة من العمر؟
 
ظل زكي واقفاً، يبتسم بصمت· وبقيت ساكناً في مكاني· أفكر في قلبي، دون أن يكون لتفكيري معنى، وهو ما كنت أَحُسُّه بوضوح· ولقد أَحَسَّهُ ، هو الآخر· أَحَسَّه في صمتي الذي بلا حدود· كان الخوف قد بدأ يستولي عليَّ· ومع ذلك، صممت على مواجهته! أي معنى للهرب إن كان الوقوع في شرك الموت لا مفر منه· ولم يكن الموت في حالتي المسائية، تلك، إلا التحرّش بمن يجعلني ارتجف من الشوق·
 
- في مرضى كثير؟ سألته دون تسرع·
 
- واحد، سيدي ·
 
- واحد؟
 
أعدت الكلمة مستاء، ولكن بحدود· الأمور الواضحة تخيفني أكثر مما تخيفني الغامضة منها·أحسب أن الغموض (حتى ولو مكشوفاً) هو السليم· وأن الوضوح (بالنسبة لي ولمن أحسبهم مثلي) ليس إلا هفوة عند من لا يعرف كيف يستتر· وفي حالتي المحزنة، تلك، كان التخفّي مثيراً للمتعة والنزو، حتى ولو لم يتحقق مما أحب أن يتحقق شي· فَهِم زكي مرادي، ولا بد، لأنه أضاف:
 
- في واحد مَرَةْ، سيدي·

الصفحات