في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود الكاتب السوري خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة".
أنت هنا
قراءة كتاب مديح الهرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
- زكي! هات المَيْ· عَجِّلْ!
أَتطلّع حولي في العيادة الخالية لكي أسعفها، ولكن بأي شيء؟على الطاولة الحديد بعض الأوراق، وقلم أجرب، وخَتْم طبي يؤكد أني، طَبيب الوحدة المرابطة على الحدود، عضو نقابة أطباء دمشق لكن ذلك كله لن يفيد المرأة المسكينة التي التجأت مساء إليَّ·
كنت لا أملك من الطب إلا اللقب· مع ذلك صرتُ أَتحرك بغائية، وأتحرّى الأغراض حولي، وكأني في غرفة العناية المشددة رَششت وجهها بالماء البارد· دلكتٌ أركانها بيدي· وسمعت أصوات أنفاسها التي بدأت تتوالى بانتظام وصبر· من دقات قلبها اليابس عرفت أن الأمر لا يتعدى طَورالإحتراق، احتراق الكائن بنيران شقائه الإنساني: شقاء الرغبة الي يهدرها كل يوم بلا إشباع! كيف أُقيمها من هذه السقطة المريبة؟ وبأي وجه سأتلقّى أفانينها من بعد؟
من التَعابير البائسة التي ملأت غضون وجه زكي عرفت أن الأمر خطير· ظلت المرأة تتلَوّى وكأن في أحشائها ناراً· من عينيها تتقاذف الشهب والأسرار· الصفرة الباهتة تتسلّق أركانها! وبدأ زكي يرتجف وهو يقول شبه- منتحب:
- المَرََةْ يموت، سيدي!
لأول مرة رأيت أشجان عينيه، وبَلَلَهما· رأيت الخوف المتوحِّش يملأ شِدْقَيه· صرت أريد أن أفعل شيئاً ينقذ حياتها التي بدأت تَتهارب منها· وبالرغم من كل سَعاديني، وحِيَلي الطبية، وجدت نفسي على حافة الانهيار! وفجأة، صرت أصرخ:
- زكي! نادِ الممرض والإسعاف·
وزكي يركض في العيادة المحدودة كالأرنب المجذوب· يدور حولي وحولها، ولا يكف عن الدوران· وبيدي التي حررتها منها دفعته خارجاً:
- اركض! هاتِ الممرض والأدوية·
ورأيته يسابق الريح وهو يصيح:
- سوليمان! سوليمان!
لكن سُلو لم يكن في ذلك المساء هنا!
- أين سلو يا زكي؟ صرت أصرخ وانا أَكاد أن أُلقي بالمرأة الهامدة على القاع·
-زين! زين! صار يردد في أذني زكي· وفجأة، قال: أعرف أين سأجده الملعون! ومن جديد بدأ يركض كالثعلب المطرود·
ستموت النازحة بين يدي! ستموت قبل أن يصل زكي· قبل أن يعود جارّاً خلفه سلو العجين! كنا نسميه العجين لشدة لينه وَتَماهله في العمل· وبرغم الرخاوة البادية عليه يقوم بعمله خير قيام· كان متأنياً وصريحاً، لكنه صارم عندما يعمل· ولأنه يروي لي أحداث عامودا وحَواريها، كنت أَستلطفه كثيراً·
عامودا أول مدينة أراها· وأول سوق أَدوسها صغيراً سوقها· في مساربها تحملني أمي مثل حِزْمة الحطب فوق ظهرها، وأبي يقودنا باكراً مع الفجر· كان علينا أن نبيع ونشتري· أن نصل وأن نعود قبل الليل· قبل أن تظلم الدنيا كما يقول أبي·
على الأتربة المنثورة حول نهرها الناشف أَتغوط· وفي محافر جيلانها أَبول· أرى الأثواب الزاهية تغطي خصور نِسائِها وأتلَمّظ· ألُمُّ بعضي على خروقي الممزقة منتظراً أن تظهر العلامات· ما كنت أخاف أحداً· كان أبي طويلاً، وأمي مَرْبوعة وسمينة، وأنا الأملق الصغير· كان أبي يُخَيِّرني· ولا أَختار إلاّ التين والرمان· و يتعجّب وهو يمشي ساحباً أمي: الولد ببطنه شي!
من غُفولي العابر نبهني زكي:
- المَرَةْ أصفر كتير، سيدي! (نسيت أن أقول إنه يُؤنّث المذكّر، ويُذكٌِر المؤنث)·
- المرأة ماتت يا زكي! قلت بلوعة والخوف يملأ أركاني· وقبل أن أَحدد: تكاد أن تموت، قال، مردداً كلامي المتسرع:
- ماتت!


