رواية "أن تخاف"، تتناول فيها الكاتبة هدية حسين، هموم وواقع الإنسان العراقي في الداخل، وفي الشتات، والتي سبق للكاتبة معالجتها من خلال ست روايات، وأكثر من مجموعة قصصية، بالإضافة إلى قراءات نقدية في القصة والرواية.
أنت هنا
قراءة كتاب أن تخاف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
حكايات من زمن بعيد
تربّت السيدة سلمى كمال في بيت للمرأة فيه سطوة وحظوة، أمها رقية خانم تنحدر من أصول تركية ورثت العناد والتشدق بالماضي، ولو تتبعنا شجرة العائلة لوصلنا إلى اسطنبول التي كانت في زمن قديم تدعى الإستانة، كان الجد الأكبر محمود شرف الدين قد نزح إلى بغداد هو وعائلته أيام الوالي مدحت باشا، عمل في الجيش العثماني، وخاض العديد من الحروب التي خرج منها بندوب كثيرة ظلت العائلة تفتخر بها لسنوات طويلة، لكنه اغتيل على يد شاب حلبي قُتل والده من قبل أحد الباشوات الأتراك، برغم أن التحقيق الذي سُجّل في النهاية ضد مجهول، قد أثبت أن محمود شرف الدين الذي ظن الشاب أنه القاتل، كان في ولاية الموصل إبان حادثة مقتل الرجل، وأعدم الشاب فيما بعد·
رقية خانم امرأة بيضاء صافية البشرة ذات عينين سوداوين، ممتلئة الجسم، أنيقة المظهر، شفتاها مدهونتان على الدوام بقشور الجوز الطرية لتلوينهما، وعيناها مكحولتان بالكحل الحجري الذي يبرز جمالهما، لم تكتحل من مكاحل عادية بل ذهبت إلى رجل صابئي فصاغ لها مكحلة من الفضة نقش عليها اسمها كما طلبت، تعرّفت على كمال الحسيني في بيت أحد أعيان بغداد، وكانت مع عائلتها لحضور مناسبة زفاف، تزوج الاثنان فأنجبت رقية خانم بعد الزواج بعام توأماً، ذكراً وأنثى، مات الذكر خلال الساعات الأولى للولادة بسبب الاختناق، خرج مزرقاً، وقالت المولّدة إن يدي أخته هما اللتان سدّت فمه وفتحتي أنفه، بينما خرجت سلمى وردية البشرة وبعينين مفتوحتين، ولم تصرخ مثل بقية المواليد·
كانت رقية خانم هي الآمرة الناهية في البيت، وكان كمال الحسيني موزعاً بين استيراد السجاد الكاشاني لمحله الكبير في أحد فروع شارع الرشيد وبين طلبات الخانم، وخارج هذه المهمات هناك وقت لا ينشغل فيه بشيء ولا تستجد الطلبات، هذا الوقت تخصصه رقية خانم للحديث عن مآثر أجدادها، حيث يعرف كمال الحسيني أنها تبالغ كثيراً في نسبة الأشياء المحمودة لهم، وخصوصاً لأبيها الذي تعلق صورته في صدر ديوان البيت، وإلى جانبها عبارة بخط يده في لوحة أطرتها من خشب الزان، هذه العبارة منسوبة للوالي مدحت باشا يقول فيها ( الحروب التي تنتهي بالنصر ترهق الأمة، كما ترهقها الحروب التي تنتهي بالهزيمة، إن الرفعة والمكانة تكون محمودة في البلاد العامرة التي ضمنت مستقبلها، ولا شيء أسوأ من ركض العراة الجائعين في البلدان المعدمة خلف السمعة والشرف)· من آن لآخر، وهما يرتشفان الشاي عصراً، يحلو لرقية خانم أن تناقش زوجها في عظمة هذه الكلمات، وكيف أن أباها كان يكره الحروب مثل الوالي ·
تحكي رقية خانم المولعة بقراءة تاريخ أجدادها فتقول: في ذلك الزمن كان جدنا الأكبر محمود شرف الدين الساعد الأيمن للوالي مدحت باشا، في الإصلاحات التي شهدتها بغداد، عينه الوالي مشرفاً عاماً على الكثير من المشاريع، من بينها تأسيس الترامواي وتعبيد الطرق، وكان فاعلاً في سن قانون ملكية الأراضي، واستشاره الوالي قبل أن يجلب أول مطبعة بخارية إلى بغداد·· ولم يملك الزوج إزاء الأهمية القصوى التي توليها رقية خانم لجدها الأكبر إلا أن يهز رأسه موافقاً، ومصطنعاً التأثر والاستحسان لعظمة سلالة زوجته، بينما في قرارة نفسه يعرف أن الوالي المصلح لم يكن له مساعد يدعى محمود شرف الدين، بحسب ما قرأ كثيراً عن تلك الفترة المزدهرة من تاريخ بغداد، وكانت اهتزازات رأسه إعجاباً تزيدها إمعاناً بابتكار الحكايات·