رواية "أن تخاف"، تتناول فيها الكاتبة هدية حسين، هموم وواقع الإنسان العراقي في الداخل، وفي الشتات، والتي سبق للكاتبة معالجتها من خلال ست روايات، وأكثر من مجموعة قصصية، بالإضافة إلى قراءات نقدية في القصة والرواية.
أنت هنا
قراءة كتاب أن تخاف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
عندما أمر الوالي مدحت باشا بتهديم قسم من سور بغداد لكي يفتح الطرق الجديدة، كان الناس يهرولون نحو المكان للحصول على أكبر كمية من الآجر لبناء بيوتهم، وقد رفض جدنا الأكبر محمود شرف الدين أن يبيع الناس الفقراء هذا الآجر الفاخر، وأقنع الوالي بذلك، فاستفاد عدد كبير من أهالي بغداد من السور المهدم·· كما أن جدنا الأكبر هو صاحب فكرة الساعة الكبيرة على البرج العالي في القشلة في جانب نهر دجلة الشرقي، والتي أصبح رنينها يُسمع في بغداد كلها·
كلما تحدثت رقية خانم عن جدها الأكبر يصغي كمال الحسيني باهتمام، ويهز رأسه إعجاباً واحتراماً لتلك الشخصية التي لم يكن لها وجود حقيقي في التاريخ المكتوب، وعندما يأتي الدور على أبيها تنسب له الكثير من البطولات؛ فتدعي أنه ذات فيضان من تلك الفيضانات التي كانت تغرق بغداد والمدن الأخرى، أنقذ ثلاثين رجلاً وطفلاً وامرأة لأنه سباح ماهر، لكن القدر أراد له نهاية مفجعة حين زلت قدمه وهو ينقذ آخر غريق؛ فأخذته إلى الأعماق موجة عاتية، وحينما طفت جثته فيما بعد شيعه أهالي بغداد في جنازة مهيبة ظل الناس يتحدثون عنها لسنوات، ورغم أنها أخبرت زوجها ذات مرة بأن أباها مات بمرض الطاعون، فإنه لم يذكّرها بهذه الحكاية، وبمرور السنين سئم كمال الحسيني كلام رقية خانم عن جدها الأكبر وأبيها، لكنه داوم على هز رأسه مفتعلاً الإعجاب خوفاً من زعلها الذي يستمر لفترة طويلة، ولا ينتهي الا بعد أن يقدم لها هدية الصلح؛ وهي عبارة عن مشغولات ذهبية أو قطعة قماش من الحرير الخالص·
وعندما ماتت رقية خانم ورثت سلمى صورة الجد الأكبر وعبارة مدحت باشا المؤطرة بخشب الزان وصورة أبيها، ونوط شجاعة لا قيمة له، والمكحلة الفضية، وكمية من المصوغات الذهبية وفساتين الحرير، والمبالغات عن قصص الأجداد وخصلة الزعل، لكنها حين تزوجت من الضابط زهير مراد لم يكن زمنها زمن مجوهرات أو حرير، لذلك كانت تكتفي بعد زعلها بعلبة حلويات وغالباً ما تكون بقلاوة، أو بخاتم من الفضة أو قطعة قماش من تلك الموجودة في الأسواق·
تزوج زهير مراد من سلمى قبل وفاة أمها بسنتين، وكان أبوها قبل ذلك قد قتل في بداية الحرب العراقية الإيرانية، عندما سيق ضمن قواطع الجيش الشعبي، فاعتبر شهيداً ومنح نوط الشجاعة عن شجاعة لم يمتلكها يوماً، وبمرور السنين صارت تبتكر الحكايات من مخيلة فاقت مخيلة أمها، هي تدرك في قرارة نفسها أن أباها سيق مكرهاً إلى معسكرات الجيش الشعبي ومنها إلى الحدود الملتهبة، وكان قد ذكر في إجازته الوحيدة أنه يتمنى الموت على فراشه من أن يموت مشوهاً في تلك الحرب، لكن سلمى في حضرة زوجها ترتجل حكايات عن مواقفه البطولية، كلما نظرت إلى صورته أو حلّت ذكرى مقتله، وتعيد حكايات أمها عن الجد الأكبر، وترى أن مدينة اسطنبول هي مركز الكون، وتكرر دائماً عبارة نابوليون بونابرت فيها حين قال (لو كان العالم كله دولة واحدة لكانت اسطنبول عاصمتها)، ومن أجل المزيد من تبجيل مدينة أجدادها قامت بتأطير تلك العبارة عند أحد الخطاطين وبروزتها لتأخذ مكانها، كما فعلت أمها مع ما قاله مدحت باشا عن الحرب، وعلقت صورة أبيها بين عبارتين لرجلين شهيرين دخلا التاريخ من أوسع أبوابه ، الأول مدحت باشا الذي لم يتحمل الولاة المتخلفون نظريته الإصلاحية؛ فدبروا له مؤامرة وسجنوه حتى مات خنقاً في سجن قلعة الطائف، والثاني قتله غروره في التوسع فنفي إلى جزيرة القديسة هيلانة، ومات قهراً، وفي رواية أخرى مات مسموماً·· لكن عبارة مدحت باشا لم تستقر طويلاً؛ إذ سترفع من مكانها بعد أن صار التغني بالحرب هو السمة التي تطبع حياة الناس في هذا البلد، وصار الفقراء زاد الحروب ونفطها والراكضين خلف السمعة والشرف، وكان لزاماً على سلمى أن تنصاع لأمر زوجها لكي لا تجلب له ولها المتاعب·
للزمن مزاج خاص لا يخضع لأمزجة البشر، ربما يشبه البحر الهادر أو المحيط الهائج، يتغير ويتلون بين يوم ويوم، لذلك لم تجد سلمى في زمنها القاحل من يهز رأسه موافقاً ومتوافقاً مع كل ما تقوله في كل الأوقات، لا وقت لزهير مراد لسماع الحكايات بعد حفنة من السنين تظاهر بتصديقها، وسواء كانت حقيقية أو متخيلة فلا تهمه بشيء، بسبب طبيعة عمله المكدسة بحكايات مضرجة بالدم وممهورة بطابع العنف، وبالتالي فهو منهك تماماً ورأسه محشو بالبحث عن مخرج لكل جريمة أو شبهة جنائية والبت فيها، إضافة إلى مهامه الأخرى المتعلقة بأمن البلد الذي يتآكل يوماً بعد يوم·· آخر تلك الحكايات مقتل أنغام عارف التي أصبحت شغل وشاغل الناس بين ليلة وضحاها·