في هذه الرواية، يسترجع سليم بركات بعض ذكريات الأرض الأولى بأحداثها الطريفة وأجوائها الأليفة والقاسية، ويعيد تأليفها عبر كيمياء مخيلته السحرية، فإذا هي رواية الغربة والإقامة ، رواية الماضي والحاضر، رواية الأسى والرجاء.
أنت هنا
قراءة كتاب الأختام والسديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
الجنُّ، الذين أورثوا شِعابَ الجودي، مذ تزوجوا الآدميات هنا·، عِرْقاً ليس على مشارب النُّطَفِ في أصلاب الجنِّ، طووا صَفْحاً ــ بإلحاح عذبٍ من نسائهم ــ عن تلقين الأبناء مرادفاتِ المعنى في طنينه، عبر صوتٍ ذي معارجَ في أوزان لا تليق بالصوت كهبة حُرَّة من النُّطق القُدسيِّ· ليبقَ إرثُ الشعر في موطن الجنِّ الأول، على تخوم اليابسة العريفة، أما الصَّقْع الجديد الذي استوطنتْهُ قبائلهُ المرئية فما من حاجة بالقرائح إلى نَظْم الفكر فيه مبثوثاً في رحاب الصِّور، أو مغشياً عليه من أثقال البيان· هكذا وطَّد الدمُ المختلطُ من ماءٍ حيٍّ، وقرمزٍ مسكون، وفراغٍ متاهٍ، نشأةَ الطَّبْع في الكُرد على حيلة الظاهر وحده، بلا توريةٍ، فيتصبَّب الواحد منهم من مسامه الطيشَ، والتهوُّرَ، ومنازعةَ الأرض على كونها أرضاً والسماءِ على كونها سماءً· لكن أردها، المُنتدَبَ من جموح الطبائع في زلال خصيتيه على تسعة فرُوْجِ مكتنزةٍ بلا خصامٍ في عصْمَةِ ذكِرِه، التفَّ على حيلة الظاهر من جهةٍ يغشاها العابثون، مزمعاً أن يعيد إلى أجداده من الجنِّ العُصاة، مُمرِّقيْ قميصِ الطاعة على كتف سليمان النبيِّ العاشق، خمرةً يقينهم في الكلمات المحسوبة ضلالاً يُرشِد الخيال إلى كماله: سأحفر الشِّعْرَ على مناقير الطير ومناسِرها
هو لا يدري كيف هاجت به الإنعاطفةُ من ريبة عقله في الشِّعر إلى تزويق الجسوم الصلبة في معمورة مُلْكه ــ مُلْكِ أبيه المنعزل، قاضي الطهاة ــ بالشِّعر حتى فاضت الخطوطُ عن مساربها في الأبهاء إلى العتبات، وانسرحتْ أبعدِ إلى حجر الساحة فالأدراج فالأقبية، التي ينحدر إليها الممسوسون بجلال الوجود الأرقِ ليتأملوا صفوفَ الجرار الملآى برماد أمراء جزيرة بوتان· الأب راونْدْ لَوْر خلط الأرصدةَ بالتوابل = لكل رماد ما يعادل طباعَهُ من الطَّعْم· وتدبير ذلك، عن عِلْمٍ دقيقِ النَّظَرِ كالمتحصِّل للأب راوند لور، هو شرعةُ بقاء الحقيقة متأصِّلةً بجوهرها في بذرة الجماد الجوهر· الرماد والتوابل جوهران، أما الأرواح فهي أبخرةُ الطهو يتنشَّقُها الغيبُ الجائع ثم ينساها بعد الشبع· الأرواحُ عَرَضٌ من أعراض الضرورة·
راوند لور اكتفى في أعوامه الثمانين، بخاصيَّة اللِّمس وحدها· الذوق نَفْسَه غدا لَمْساً· إصبعه تنتقل من الطعام إلى فمه، ومن التراب إلى فمه، ومن السطور، التي لا يراها في كتابه المهترى، إلى فمه· يقرأ بلسانسه ــ لسانِ المعتزل في الدهليز ذوي النقوش الخضراء على الصفيح الفضَّة، تحت الأربعة الأعمدة في بهو البيت الفاره· وقد أصغى قليلاً إلى الجَلَبة التي تدحرجت خافتةً صوب مرقد يقينه ففتح فمه· هَمْهَمَ· عاد بعينيه النازحتين من تِيْهِ النور إلى الظلام الكليم يتتبَّع قلوعَ الطهاة في عبورهم الأرخبيلاتِ الأزليةَ·