الذي يميز هذه الرواية "المفتون" هو أن حوارها يحتوي مجموعة من اللغات، التي يتقاطع بعضها مع بعضها الآخر، فينفرط الصوت في لغات متعددة تأخذ من الهضاب والأعالي والسهول والسجون والمستشفيات لغاتها الخاصة.
أنت هنا
قراءة كتاب المفتون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
- لماذا؟
- لأنها انفصام عن الواقع بواقع آخر يتصل بعالم ثان هو عالم الكتاب··
- دكتور·· جئت للمعالجة·· منتظراً منك حلاً لآلامي·· والآن·· تدفعني إلى دائرة الرعب·
- لا·· صدقني·· إن حالتك بسيطة جداً قياساً إلى حالات كثيرة أشهدها شهرياً بل ويومياً أحياناً···
- كلٌ يحتضن حالته المرضية يادكتور، كأنها طفل له أو حاجة خاصة، أو لعبة عزيزة عليه·· وبعض الأمراض تصبح أسراراً··
أثار انتباه الطبيب ذكاء مريضه·· وجماله المميز· وجه شفاف· عينان عسليتان تستحمان على أجفان طويلة·· أنف دقيق مرتفع قليلاً لأعلى·· فم صغير بأسنان دقيقة وملامح أخرى محسوسة وغير مرئية تترك انطباعاً سريعاً عن مزايا فاتنة في الوجه، والشعر الأسود الفاحم المتناثر في خصلات فوضوية تلمَّها فتنة خاصة·
دوّن الطبيب ملاحظاته وهو في إصغائه لما يقوله يوسف··
- إن كآبتي يادكتور شيء وحشي يستولي على أعماقي·· إنها هجوم قدري رهيب يُفرَضُ عليّ الوقت الذي يشاءه في الليل أو في النهار· أحس بعد ذلك بتوقف شهيتي·· فلا آكل ليومين أو ثلاثة·· وأظل مطرقاً في صمتي تحت عباءة حزن لا يوصف··
إنني مهجور·· منبوذ·· وحيد·· وحيد مبعد عن كل شيء·· أحياناً أنخرط في بكاء مرير·· أذهب إلى شارع بعيد، فارغ من المارة، لأبكي كثيراً·· ولا أدري لماذا لا أنتحر·· انني أجد نفسي جاهزاً للإنتحار، لقد قرأت عن حياة المنتحرين··· وأسباب انتحارهم·· فرأيت أنني سيدهم··
لماذا-إذن-هذا التأخير؟ لماذا؟
لم يجد الطبيب داعياً لقطع استرسال مريضه·· لا سيما أن المعالجة تأتي عبر تداعيات الأجوبة، حيث تبرز خيوط الحالة المرضية رويداً رويداً وتتجمع هنات وأجزاء من الصورة، حتى إذا ما تجلت النقطة المركزية أصبح العلاج ممكناً·
ورأى الطبيب التناقض بين نعومة وشفافية وجه يوسف اليعقوبي وكبر وخشونة كفّيه المتماسكتين بحدة·
إن العصبية تظهر بجلاء على أصابع يديه، ويظل وجهه هادئاً تماماً لا أثر لأعاصير الكلمات عن الكآبة والانتحار على صفحته· وتساءل الطبيب مع نفسه:
أيمكن للمرض النفسي أن يحتل مكاناً سرياً خاصاً لا يلمس الوجه؟؟ أم يمكن للوجه أن يكون بمنأى عن مد المرض الداخلي العنيف·· آه·· هذا الفتى محسود في بهائه·· وشموخه الجميل·· من يدري-من الناس-انهم يحسدون حزناً لا نهاية له؟
- دكتور··
- نعم
- أريد علاجاً فعالاً·· أريد ذلك··
- حسناً·· سأعطيك بعض المهدئات حالياً··
- دكتور··
- نعم··
- ما تلك الصورة المعلقة على الجدار في غرفة الانتظار؟
- إنها صورة للصداع··
- ولكن الصداع لا يمكن تصويره··
- يمكن تصوير أعراضه··
- كنت أظن أنها صورة للجنون، فالجنون-وحده- الناطق والمرئي، وكل ما عداه مسرح سريّ··
كتب الدكتور بعض الملاحظات الإضافية وسجّل وصفة طبية، فيما أخذت الأصابع الطويلة ليدي يوسف اليعقوبي تقلبان وتحركان أوراقاً وأقلاماً وأشياء أخرى على منضدة الطبيب·
- هذه هي الوصفة الطبية، وسترتاح كثيراً··
- شكراً·· دكتور·· ومتى أراك؟
- تراني؟
- نعم·· ربما أحتاجك·· فأنا أعرف ان شفائي صعب·· إنني سيء الحظ·· قبل أيام أسندت شقيقتي رأسها على كتفي·· طويلاً·· محدقة بسقف الغرفة ثم قالت لي: لماذا أنت سيء الحظ دائماً؟·· حقاً·· أنا كذلك·
غادر يوسف اليعقوبي غرفة الطبيب، بعد أن علا ملامح وجهه سرور خفيف لا يتناسب مع الحديث عن سوء الحظ· ظل الطبيب مطرقاً قليلاً ثم شعر بدافع قوي لأن يزيح ستارة الشباك ويتابع بنظراته الحزينة انصراف الشاب المعذب·· والتقت النظرات·· كان يوسف اليعقوبي واقفاً في الشارع·· يحدق في النافذة·· وافترّ ثغره عن ابتسامة، سرعان ما أصبحت ضحكة غامضة··