هذا كتاب فريد في بابه، يحتل، أو ينبغي أن يحتل، مكانة متميزة بين الأعمال الأدبية الخليجية والعربية المشابهة· وإذا كنا غير قادرين على تحديد نوع الكتاب وإدراج الكتابة في خانة إبداعية معينة، فلأنه أي الكتاب ينأى بطبيعته عن التصنيف الذي اعتدنا أن نقرأ النصوص وال
أنت هنا
قراءة كتاب مذاق الصبر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
لن أزعم، وأنا أسرد ما حدث لي صباح ذلك اليوم الشؤم، أن حديثي الآن وهنا يطابق تماما ما دار آنذاك، لكن وبشيء من المقاربات يمكن القول إن ما وقع لي خلال ساعاته لا يختلف كثيرا عن ما ذكرت وما سآتي على ذكره في الصفحات التالية·
لا أتذكر كثيرا كيف مضى الوقت، وأنا مُسجى على ظهري على نقالة مرضى - بعد أن حُزم جسدي بأربطة تفاديا لما قد يفاقم الضرر الذي أصابني - داخل سيارة الإسعاف وهي تشق طريقا جبليا افعوانيا شديد التعرجات يخترق سلسلة جبال الحجر الشرقي - بين إبرا ومسقط·
بيد أن ذلك الطريق، الذي قطعته ذهابا وإيابا مرات كثيرة خلال الأشهر القليلة الأخيرة أثناء عملي بحقول النفط في الصحراء العمانية، ما زال بعد مرور أكثر من عشرين عاما من ذلك التاريخ يتراءى لي في منامي·· أرى سيارة إسعاف تسير في طريق متعرج بين جبال شاهقة شديدة السواد تشبه إلى حد ما طريق وادي العق الذي سلكته سيارة الإسعاف في ذلك اليوم!
وعندما استعدت كامل وعيي في مستشفى خولة، أدركت مدى خطورة إصابتي حين وجدت الجزء العلوي من جسدي داخل شرنقة جبس امتدت ما بين أسفل البطن إلى أعلى العنق، والأنابيب تدخل وتخرج من الجزء السفلي·
ما كاد النهار ينتصف حتى غص الجناح الذي وُضعت فيه والردهات المجاورة بالأصدقاء والمعارف·· بعضهم جاء لتقديم المساعدة كالتبرع بالدم أو كل ما بوسعهم تقديمه، وآخرون للاطمئنان عليّ· ورغم أني لم أفقد الوعي بعد ذلك، حيث كنت أستجيب لتحيات الزائرين وتهنئاتهم لي بالسلامة من أهل وأصدقاء ومعارف، إلا أن من الصعوبة بمكان تذكر كل الأسماء والأوجه· فلقد كانت الصور ضبابية ومشوشة، ولا قدرة لي الآن على استحضارها من شتات ذاكرة كانت تئن تحت وطأة الصدمة!
أما في صور، فقد تردد الخبر - ولا أدري من كان وراء ذلك - أن إصابتي طفيفة، ومن المنتظر عودتي إلى المنزل في تلك الليلة، لذلك انشغلت زوجتي، كما ذكرت لي لاحقاً، بإعداد البيت وفرشه استعدادا لعودتي واستقبال المهنئين بسلامة النجاة·
وفي المستشفى، استشعر أحد أقاربي خطورة الإصابة إذ لاحظ أني لا أقوى على تحريك يديّ وقدميّ رغم خلوهما من جروح أو كسور· وإذ استفسر عن تفاصيل الإصابة ونتائجها المترتبة على صحتي، عرف من الأطباء أن من السابق لأوانه تحديد مدى الضرر الذي لحق بي وشدته قبل انقضاء ثلاثة أيام· ففي مثل هذه الحالات قد لا تكون النتائج سيئة كما تبدو، ولعل الأمر ليس سوى صدمة في الأعصاب سببت عطلاً مؤقتا في بعض وظائف الجسم الحيوية·· لاسيما وأن إصابتي تبدو - ظاهريا - طفيفة، فلا دماء ولا جروح وليس هناك ما يستدعي تدخل جراحي عاجل!
على ذلك النحو أفل اليوم الأول من تاريخ الحادثة·· يوم انتهى فيه فصلٌ من حياتي كان على قصره زاخرا بسائر أبعاده·
جاء اليوم التالي·· جاء بدموعه وأحزانه ومخاوفه، فقد فتحت عينيَّ على أمي وزوجتي بجانب السرير: اكتسى الحزن والأسى وجه والدتي وهي تذرف الدموع بلا انقطاع، في حين وقفت فاطمة تنظر إليّ بابتسامة أخفت وراءها اضطرابا بالغاً وخوفا عظيما وهي تشاهد نصف جسدي داخل قالب من الجبس، وأنابيب السوائل تدخل وتخرج من النصف الآخر·· ابتسامة لا تشبه في عذوبتها تلك الابتسامة الصافية التي ودعتني بها فجر اليوم الذي سبقه!
حاولت، بقدر ما أتاحت لي نفسي الضعيفة، أن أبدو قويا·· متماسكا، وأن احتفظ برباطة جأشي، لكن نظرتها الحائرة·· المضطربة قهرت محاولتي، أضعفت قوتي، ومزقت تماسكي، فسالت دمعتي·· دمعتها، وبدا لي أن خيطاً رفيعاً امتد بين دمعتينا·· معبراً لهواجس الخوف والقلق!
وكان جل ما تمنيت في تلك اللحظة، على تعاستها وازدرائي لها، أن أغمض عينيي وأنعتق معها بعيداً عن ذلك الواقع الأليم إلى عالمنا الخاص: عالم آخر يزخر بالبهجة وتطغى عليه الفرحة والسعادة·· لاسيما أنه لم يمضِ على زواجنا عام واحد!
لم يختلف اليوم الثاني للحادثة عن الذي سبقه، ولم يكن أفضل حالا من ما تلاه من أيام، ومن الناحية الصحية لم يطرأ على وضعي جديد: ففجأة وجدت نفسي وقد فقدت الإحساس في جسدي كله عدا ما فوق الكتفين· واقتصرت قدرتي على الحركة في عيني وفمي وحسب، ولم تكن لي قوة - حتى - على حك أنفي!