أنت هنا

قراءة كتاب تخت شرقي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تخت شرقي

تخت شرقي

في المجموعة الشعرية "تخت شرقي"؛ وجدتني أرتمي على الأرض المعشوشبة تحت شجرة الحور الباسقة، ملقياً بأثقالي تحت ظلالها، وقد تلاشت أصابع شغفي الناشبة في المحيط، بعيداً عن رفاقي اللاهين في جهة أخرى من نهر الجوز· غير أن حركتي المتراخية، ما أن استلقيت إلى جانب الجذ

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
لذلك نقوى على اختصار أي نص، من المادة العلمية إلى المادة السردية، بينما لا نقوى على اختصار أي قصيدة· كما نقوى على التقدم والتوقف في أي نص، وعرض ما جرى أو ما سبق، والعودة إليه من جديد، بينما لا نقوى على ذلك في القصيدة إذ أنها تبدو مراوحة أحياناً في حيز بعينه، ودوراناً حوله، أو تغويراً فيه، ما يقطع الصلة بالزمن، بل يفتحها على احتمالات جديدة، غير معهودة·
وهذا ما نتحقق منه في الترجمة (كما سبق أن كتبت) وهو أن ترجمة الشعر مستحيلة، فيما ترجمة النصوص الأخرى ممكنة، إذ أن ترجمة الشعر وضعٌ جديد له، مهما بلغت درجة الأمانة· وإذا كانت مجهودات المترجم ترتكز عادة في ترجمة النصوص على تثبيت اللغة في ألفاظ اصطلاحية دقيقة أو في استعمالات مناسبة، فإن مجهوداته في ترجمة الشعر تؤدي، واقعاً، إلى احتمالات التكثير والالتباس والتجديد في كل لفظ، ما يجعل ترجمة الشعر عرضة للتأليف، لا للنقل، بالضرورة·
أصطحب معي، في قولي هذا، ابن رشيق الذي يؤكد في تعريفه للشعر، بأنه، يقوم بعد القصد على كذا وكذا· وما يعنيني هو هذا القصد الذي لا يعرِّفه الناقد القيرواني أبداً - وللأسف· ما يقصد الشاعر، وهل في الشعر قصد محكم فعلاً؟
طبعاً يمكنني وصل فكرة ابن رشيق بما قال به عدد من علماء اللسانيات، أو من علماء الاجتماع الذين يتحرون القصد الفردي والاجتماعي في الخطاب، سواء أكان قولياً أو كتابياً، في النظرية التي تتعامل مع النص بوصفه استعمالاً للغة، من جهة، وبوصفه شراكة في حوار، تخاطبي، ينطلق منه الخطاب ويشارك فيه، من جهة ثانية·
إلا أنني أبتغي توجيه كلام ابن رشيق في وجهة أخرى، مغايرة، وهي الحديث عن القصيدة بوصفها قصداً ولكن غامضاً، يتعدى المتكلم نفسه، ويحتويه كذلك· والقصدية تشير من طرف إلى طابع القصيدة الإرسالي، الذي يشتمل على إخبار وفق طريقته المخصوصة في التعيين والترميز، التي تختلف عن طبيعة الإخبار في السرد، وعن المحتوى الرمزي الذي يوافق المبنى الضمني للسرد· وتشير القصدية، من طرف آخر، إلى طلب التأثير، واستثارة الانفعال الجمالي (والذي يجعله عدد من علماء الجمال في منطلق الحكم الجمالي)·
والقصيدة تخبر، ولكن على طريقتها، التي تستجمع في كثافة جمعاً متعدداً من الخبرة والثقافة والتجربة، ومن إلحاحات الشاعر نفسها، في مبنى كتابي يشع في إخباره وتعيينه، ويرسم جواً ومناخاًَ، ينفذ إلى عميقنا، إلى ما يجعلنا ننفعل، ونبتهج وإن في الحديث عن الحزن·
وللقصيدة أشكال متعددة في إتيانها: فتَرِد طيعة، هينة، مثل نغم مموسق، مثل ماء جارية؛ أو ترد وروداً صعباً، كمن يقلع الحجارة في مقالع، حينما يستخرج الألفاظ من علاقاتها القديمة، المعهودة؛ أو ترد وفق تصميم له شكل الحكاية أو البناء المتتابع···إلا أن الشعر في أحوال وروده كلها يبقى عصياً على التلخيص والتتبع، كما لو أنه يعصى الزمن (أي خطه التتابعي)، والمنطق التصديقي (أي يقبل تقدماً وتراجعاً وتغويراً في الوقت عينه)·
إذا كان غير الشعر كتاباً مفتوحاً، قيد الكتابة في أي لحظة، في أي مكان، مصحوباً بمواد تحضيرية، فان الشعر بدء وإن يتم استلحاقه، فتحٌ لشهية الكلام وإن كانت له تقاطيع زمنية تعينه أو تجعله حوارياً في جدلِ قيم ورموز وخطابات· القصيدة فعل ملحوق، لا نتعرف عليه إلا بعد وقت، بعد حصوله، في تضميناته الخافية· هكذا يبدو في ظاهره تلقائي التتابع والنبر، فيما هو - لو نظرنا إلى أوراق الشعراء ومخطوطاتهم - عملٌ، صنع، يقوم على مقادير واسعة من التقديم والتأخير (وفقاً لما قاله الجرجاني عن مزايا النظم) والشطب والزيادة والتكثيف أو التمطيط وغيرها من العمليات التنصيصية· والقصيدة تحتمل بل تشترط الرتق والضبط والربط، وتتناهب الحروفُ فيها الحروف، لكنها فستانُ العروس، ولمرة مبرمة·

الصفحات