رواية "زينب وماري وياسمين" الصادرة عام 2012 للروائية العراقية ميسلون هادي، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجواء الرواية:
أنت هنا
قراءة كتاب زينب وماري وياسمين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
زينب وماري وياسمين
الصفحة رقم: 5
مرت سيارة الأزبال· تركتني أمي وهبطت على عجل·· أبكي عندما تمر سيارة الأزبال وأنظر إليها·· لقد أخذت مني قراصتي البرتقالية في كيس أسود· لا أعرف بعد ذلك ماذا حل بها· تكسرت وشحب لونها ثم اختفت من ميز التواليت·· أصبح لها صوت أجش يشبه صوت ورقة نارنج يابسة وملمس خشن وجاف من تراكم الطوز القديم والجديد عليها· أبي كان قد جلب لي في يوم الحجاب كيساً مليئاً بالربطات الملونة، وأمي جاءت لي بعلبة فيها قراصات أضعها بشعري تحت الحجاب أو بدونه عندما أكون داخل البيت فقط، ولكن القراصة البرتقالية التي أحببتها هي الوحيدة التي جفت وأصبحت تئز مثل ورقة يابسة·
وجب عليّ منذ ذلك اليوم أن أكون نائمة أنتظر الرجل الذي سيقبلني ويوقظني من النوم· لم أكن أعرف ماهي القبلة وكيف تكون·· وكيف أميزها عن قبلة أمي أو أبي· في الليل جاءت الغزلان تتقافز حولي وهبط الرجل من فوق حصانه وفك أزرار قميصي، وعرفت كيف تكون القبلة· إنها بلا صوت، وأطول مما يجب، وتترك دبيباً في الجسم····· لم لا تأتين معي أيتها النائمة·· سنتحرك بهدوء فلا يسمعنا أحد··كم تبقى من الوقت·· انتظرني·· تعال·· ضحك الرجل قبل أن يقفل عائداً إلى قريته وقت الغروب آخذاً قميصي معه، وبعد شروق الشمس جاءت أمي وسرّحت لي شعري دون أن تقول كلمة واحدة··· لونها الأبيض قد تحول إلى الأصفر الشمعي، وفي عينيها غواش خابط·· فهل هي أمي نفسها التي قالت عنها بيبي صبيحة إنها كانت جميلة ونحيلة القوام كالغزال، وإن بياضها كان كعظم العاج، وجمالها يفك المصلوب من حبل المشنقة·· أمي لم تشمخ ببياضها على سمراء واحدة، وراحت تشحب وتطيل النوم في الفراش·· ثم تقول لي أشياء غريبة لا أدري من أين تأتي بها·· وكانت بيبي صبيحة تندبها قبل أن تنشف وتموت وبالمرة تندب حظها العاثر، وتقول إن القدر قد ظلمها قبل ثلاثين عاماً على ذنب لم ترتكبه هي بل ارتكبه أخوها جبار· دخنت ثلاث سكائر دفعة واحدة وهي تقول إن جدي عبد السلام أحسن معاملتها، بالرغم من أنها كانت فصلية، ولكنه بعد أن مات مدهوساً بقلابية طابوق، طلعت أمه وأخته قهر الله بنا·· كانت لهن قلوب أقسى من صخر الجلمود·· وجعلوا من أمك (زينب) وخالتك (زمان) تعملان في حظائر الأبقار·· الكبيرة كانت ذليلة فقيرة، والصغيرة راحت تتمرد وتتعاند·· فأخذتهما مع أخوالك سعيد وسليم ورشيد وهربت عائدة إلى بغداد··
بيبي صبيحة دائماً تنوح وقت الغروب لترثي ابنتها الراقدة في المستشفى التي تسميها بالخستخانة، وأيضاً تندب أبناءها الصغار الذين جاؤوا إلى الدنيا قبل (زمان) و(زينب) ثم ماتوا بسبب الجوع والمرض وطاروا مع الملائكة·· في كل غروب تجهش في البكاء وهي تعدد خصالهم الجميلة، مرددةً الكثير من قصائد الشعر التي لا تنسى منها شيئاً أبداً··· ولو أمتحنت بتلك القصائد ذات يوم لأخذت عشرة في الامتحان·· وفي الليل تجلس على سرير معدني في السطح وتسأل الدنيا·· ما هذه الدنيا؟ أنعل أبو هذه الدنيا·· ولكني لا أردد سؤالها هذا أمام أحد·· لأني عندما أتكلم مثل أي أي أحد آخر لساني لا يطاوعني، وأكاد أن أبكي بعد كل مرة أتكلم فيها من شدة الندم·· ولكن فعلاً ما هذه الدنيا؟ أنعل أبو هذه الدنيا عندما يكون البيت خالياً من زينب··
لم يسبق لي أن رأيت أمي على هذا الشكل من الاصفرار·· كانت مرتخية في فراشها ويدُها على الفراش تشبه يد دمية من المطاط· فمها ناشف ومجرور إلى أسفل، وشعرها الرمادي الناعم أصبح دهني الملمس، لأنه لم يُغسل منذ وقت طويل· لم نأخذ لها طعاماً ولا شراباً، لأنها كانت تمتص طعامها من المغذي، وكذلك لم نقم عندها طويلاً لأنها كانت تحتاج إلى النوم·· وعندما انقضت تلك الليلة وأطلق الديك أول صيحة له في الصباح كانت بيبي صبيحة قد عادت إلى البيت وهي تبكي·· قبل ذهابها للمستشفى، جعلتني أداوم في المدرسة في صباح ذلك اليوم من أجل استلام الشهادة· وعندما عدت إلى البيت، التمّ الجيران على بيتنا، وسمعت أصواتاً غريبة تنطلق من أماكن مختلفة تحت الأرض، ولم يسعني الوقت للتفكير أكثر من ذلك، فقد جرفتني الدموع بعيداً عن الشارع الطويل الذي يربط مدرستي بالبيت، واختفت رؤوس النساء تحت سيل الدموع·· وبعد لحظات اختفت الأيادي الممدودة أيضاً·· ارتفع رأسي من الكهف، فتمسّكتْ بيَ بيبي صبيحة ووضعتني تحت ذقنها الموشوم بدقة زرقاء تلمع في الشمس· القرط الذي صاغته لي من الذهب عندما نجحت من السادس في البكالوريا، تقول لي اليوم انزعيه اليوم والبسي الأسود لأننا لن نذهب للخستخانة بعد اليوم··· أمك قد ماتت· زينب المظلومة ماتت·· الطيور هبطت فوراً لتأكل من جلدة رأسها·· وبعد الطيور جاءت الديدان لتسبح في ماء بطنها·· وكان الرجل الجالس فوق النخلة لا زال يغني····· إنه في الأعلى·· هناك·· يغني وأنا أتذكر·
تساقط بعض ماء المطر الذي كان قد تجمع فوق السعفة·· وبعد القطرة العشرين عاد الولدان الأبيض والأسمر للمكان وقال أحدهما للآخر أنا أقوى منك·· ولست حافياً مثلك·· ثم جاءت الكلبة المتسخة فلاحقاها بالحجارة وهي تركض·· هاربةً من الاثنين دون أن تستطيع الفرار بعيداً·· أولاً لأنها عرجاء·· وثانياً لأن الحافي كان سريعاً في الوصول إليها والتمكن من بطنها بحجارة أخطأت رأسها·· ماذا تفعل؟ أمجنون أنت؟ اتركها وشأنها·· ألا ترى أنها مرضعٌ·· قهقهات·· بدون توقف·· وضرب بالأيادي على القبور من شدة الضحك· هيا اذهبا من هنا وابتعدا عن المكان·· في قديم قديم الزمان·· ماتت كلبة الشارع في الشارع متكومة على نفسها· هامدة تتنفس ببطء وقد التمّ النمل على عينيها المغمضتين·· حدث ذلك عندما كان الجني يدخل بيتنا ويحملني من الأرض ويضعني في حضنه ثم يرميني إلى الهواء··· خالي سليم هو ذلك الجندي الذي كنت أسميه بالجني، وكان يذهب إلى الحرب مرة كل شهر، وفي نهاية الحرب ذهب ولم يعد· قالت لي ماما إنك كنت في الصف الأول عندما دخلت القذيفة إلى بطنه فأكلت ساقه الأسماك، وأكلت معه صديقه غالب الذي غرق في النهر وكان فيه الكثير من السمك أيضاً· أيامك سعيدة خالي سليم·· هل قلت ماما؟ أمي كانت حية عندما حدث ذلك وسمعتها تقول وهي جالسة في العزاء إنك ستتزوج حورية في الجنة، ثم جاء الليل فحلمت بأن ساقك أصبحت طويلة جداً وبأنها تخرج من كل شيء·· تخرج من النهر ومن القبر ومن سطح البيت أيضاً· وعندما وقفت فجأة قرب باب البيت، أردنا أن نسلم عليك، ولكننا لم نعرف كيف نصل إليك وأنت بهذا الطول، فقال أبي هاتوا سلماً حتى نصل إليه، وقالت أمي اجلس على الأرض حتى نراك، وأنا قلت لك خذني معك إلى فوق·· أريد أن تحملني إلى أعلى·· وحملتني إلى أعلى وهناك صفقت وضحكت ولكني لم أر حورية الجنة ياخالي·