رواية "زينب وماري وياسمين" الصادرة عام 2012 للروائية العراقية ميسلون هادي، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجواء الرواية:
أنت هنا
قراءة كتاب زينب وماري وياسمين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
زينب وماري وياسمين
الصفحة رقم: 7
قال لنا إن الفنانة أمل طه كانت لا تحضر البروفات إلا ومعها قدور الدولمة وسفطات الخبز، وإن فيروز عندما غنت في قاعة الخلد، طلبت رفع صورة أحمد حسن البكر من خلفها·· تخيّلوا أن زوجها عاصي كان يصرخ بها ويعنّفها خلال البروفات·· هذا شيء لا يُصدّق·· وخالتك زمان كانت تريد الذهاب إلى الحفلة، ولكن سعر البطاقة كان خمسة دنانير·· يعني مصروف شهر كامل· فلم تستطع المسكينة الذهاب· وبعد فوات الأوان، حصلت على مثل هذا المبلغ هدية من خالك سعيد عندما سافرت فرقـة (أبنـاء دجـلة) للموشـحـات الأندلسية؛ لتسجيل أغان لإذاعة دولة الكويت، فأخذوا خالك معهم كواحد من الكورس المرافق لجعفر حسن، أول مطرب عراقي يلحن ويغني للأطفال· ثم شـارك في غناء أوبريت (عزيزة الكاع) لبرنامج (صوت الفلاح)، وتمثيل أوبريت (بيادر خير) مع فؤاد سالم· وعندما خصصوا ميزانية فخمة لفيلم (المسألة الكبرى)، الذي أخرجه محمد شكري جميل، كان خالك سعيد يمثل ضمن المجاميع التي تقدمت المنازلة مع غازي التكريتي ضد الإنكليز، كما رمى أكثر من رمانة يدوية في فلم (الحدود الملتهبة)·· إلى أن طال أمد الحرب فأوفدته الدائرة مع الفرقة إلى لبنان لحضور مهرجان الشباب العربي في بيروت، فعبر الحدود من هناك مع أحد المهربين إلى اليونان، ومن اليونان ذهب بالقارب إلى تركيا، وانتظر هناك بضع سنوات لحين هجرته إلى كندا·· بينما خالك سليم سار في طريق الحرب ولم يعد···
نار لا تنطفئ، وحولها الكثير من النسوة والأطفال·· والطيور أيضاً·· طريق طويلة لا يقطعها سوى النهر الوحيد الذي أنظر اليه من خلال شبكة إبريز سور الجسر؛ فأرى القارب يمشي لأول مرة، والصياد يصيد لأول مرة، والأولاد يسبحون لأول مرة·· الجزرة الوسطية للنهر ذهبنا إليها في الربيع، ولكن القارب لم يكفِ الجميع فأخذوا مصطفى وتركوني أعود إلى البيت·· نظرت إلى القارب وما صعدت إليه·· قالوا لي عودي إلى بيت بيبي صبيحة وانتظرينا هناك·· وأخذوا معهم في القارب أخي مصطفى وقدر الدولمة وترمس الشاي· من القارب توجهت إلى الشاطئ، وحالما لمسته قدمي تدفقت أمواجه وغمرت تنورتي الطويلة· أخذت تلك الأمواج ترتفع أكثر وأكثر حتى غمرت ركبتي· شعرت بالخوف من أن يبتلعني الماء· وقفت في مكاني لا أتحرك·· هكذا·· أنا تراودني الرغبة بالموت كلما شعرت بالانكسار· المرة الثانية التي حاولت فيها الانتحار كانت بعد سنوات من حادثة القارب، وبعد ساعات من خطبة تارا أخت تبارك· وضعت تبارك الكحل في عيني وقالت إنها ستجرها للنجوم البعيدة، وعندما عدت إلى البيت انتبهت أمي على هذه المصيبة وجاءت بفوطة بيضاء مسحت بها عيني، ولما رأت الأثر الأسود عليها ضربتني ببابجوها، فبلعت شريطاً من الحبوب فيه اثنتا عشرة حبة، وغسلوا لي معدتي وظنوا أني حامل·
استمر النهر يغمرني حتى بلغ خصري· رفعت حقيبتي فوق صدري، واستمر النهر يغمرني حتى وصل صدري· وضعت حقيبتي فوق رأسي· جاءت آلاء وصاحت بي: تعالي ياسمين·· تعالي تعالي·· عابت شكلك·· أين أنت؟ وماذا تفعلين؟ ثم جرتني إليها فأخذ الماء يدب على جسمي ويدغدغني وكدت أغرق، لولا أن ساعدتني آلاء في الخروج إلى إليابسة؛ لأنها كانت تجيد العوم· بيت بيبي صبيحة كان قريباً من النهر·· جففت ملابسي هناك وسألت بيبي صبيحة أن تعطيني دينارين فأعطتني ديناراً واحداً يكفي لشراء قنينة بيبسي كولا· جعل الدينار بكائي يزداد، ووصفتُ لبيبي صبيحة ما حدث من أمي زينب في الزورق؛ فواستني بالقول إنهم فعلوا ذلك لأن مصطفى هو الرجل وليس أنت·· صحيح أنه صغير ولكنه هو الذي سيمنع أباك من اللغو والغضب بعد العودة من تلك الرحلة· قلت لها ولكنه أصغر مني وهو في العاشرة، فكيف يكون رجلاً؟ فقالت لسنا نحن بأفضل من الملك غازي أيام الملوك·· فعندما علم الملك غازي بأن زوجته الملكة عالية حامل مازح الطبيب قائلاً إذا كان المولود الأول ولداً فسأكافئك بسيارة، وإذا كان بنتاً فسوف أتخلص منك·· وبر الملك بوعده وأهدى الدكتور سندرسن سيارة في اليوم التالي لولادة الملك فيصل·· أما بيبي صبيحة فلم تعطني سوى دينار واحد يكفي لشراء قنينة بيبسي أو خمسة سمسميات وشريط قمر الدين·· معها دائماً الكثير من الخردة تحفظها في صرة بجيب دشداشتها، وذلك لأنها تفعل أشياء مخجلة في بيتها·· تأتي النساء إليها فتحف لهن الشعر من كل مكان، وأحياناً تتعرى العرائس أمامها لتقلع بالشيرة شعرهن الزائد من الظهر إلى البطن وحتى أعلى الأرجل·· كانت أيضاً تسحب الأطفال من بطونهن بعد أشهر عدة·· وتبيع الخبز الذي تخبزه للناس من الصبح وحتى الظهيرة· أنا لا أتذوقه إلا عندما أكون جوعانة جداً؛ لأني وجدت صرصراً يابساً فوق صينية الخبز ذات يوم، وعندما أخبرتها بذلك لم ترم قرص الخبز إلى الزبالة كما أخبرتني، بل أعادته إلى مكانه وباعته مع سفطة الخبز لأحد المشترين· كان لديها تلال من الحطب موضوعة بمحاذاة جدار الحديقة الجرداء كنت أعتقد أنها لن تتمكن من حرقها كلها إلا في عدة أعوام، ولكن بعد شهور يكون الحطب كله قد احترق في التنور ولا تتبقى منه سوى بضع كربات على زاوية بين الحائط والأرض، مما يعني أنها ستشتري تلاً جديداً من الحطب تضعه بمحاذاة الجدار·· معجانة الخبز التي تنقعها بعد أن يتيبس عليها العجين هي نفسها التي تغسل بها ملابسها الوسخة·· تقول إنها تغلَيها بعد كل استعمال·· وكلما تراني تبعثني إلى البقال لأجلب لها الملح أو السكر أو الخميرة· كنت أكرهه جداً لأنه يمسك يدي بقوة أثناء دفع النقود·
إنها غلطة أمي·· كرهتها لأول مرة·· ورجعت إلى البيت أبكي وأحمل ديناراً واحداً· ثم فرحت لأن الشمس اختفت وأخذت الدنيا تمطر عليها وعلى مصطفى في القارب·· صحيح أنها محترمة ولا تقوم بأعمال مخجلة مثل بيبي صبيحة وخالتي زمان، ولكنها طردتني من قاربها الأبيض لأجد القمر الدين قد نفد، واللقم الوردي كله مغطى بالذباب··· لا يوجد سوى الذباب الملتصق باللقم، فعافته نفسي·· ومن الأفضل، كما تقول لنا معلمة الدين، أن نلفه بورق سميك لكي لا يقف عليه الذباب·· مثلنا نحن البنات الحلوات·· يجب أيضاً، كما تقول، لفنا بالحجاب لكي لا يقف علينا الذباب·· اشتريت العلكة والجكليت بدلاً من اللقم، ووقفت أسفل الدكة التي يوجد عليها المحل وأنا أقارب رجلي بقوة بسبب حسرة البول، وظل شاكر البقال يريد الامساك بيدي بالرغم من أنني كنت قد وضعت الربطة على رأسي، فجاءت صديقتي آلاء التي أنقذتني من الغرق واصطحبتني معها إلى البيت·· وقالت·· هيا بنا·